في صباح شتائي ممطر وبارد رايتها في احد تقاطعات الحلة تنتظر الضوء الأحمر بفارغ الصبر منتظرة وقوف السيارات علها تبيع شيئا من سلة التين التي أصبحت وكأنها جزءا من جسدها، قلت في نفسي يال هذا المنظر الذي بدا يشوه المدن والشوارع ، يال هذه العصابات التي تستغل الأطفال لتجمع اموالا مستغلة تعاطف الناس معهم ، أليس من واجب الحكومة ان تضع حلا لهؤلاء المتسولين؟
المنظر اصبح مالوفا وفِي صباح كل الْيَوْمَ اشاهد تلك الطفلة ، فبعد برد الشتاء اقبل الصيف بالسنته الملتهبة التي موجت أسفلت الشوارع وهذه الجميلة ما زالت على نفس العمل بنفس النشاط المنهك فبعد رحيل الشتاء اتضحت معالم جسدها الهزيل الذي كان مخبوءا تحت الجلابيب والملابس الرثة حيث كانت ترتدي ثوبا احمر قاني بالرغم من شحوبها الا انه يضفي عليها شيئا من الجمال.
يوما بعد اخر وعلى مدى اكثر من ثمانية أشهر بدأت نظرتي تتغير تجاه بائعة التين التي صرت أشاهدها كل يوم وهي تتجول بين سيارة واُخرى محاولة بيع مالديها علها تعود لبيتها باكرا لتنعم بشيء من الدفء ايّام البرد القارس أو تسرق ساعة راحة هروبا من شمس الصيف.
اعتدت على ذلك المنظر الممزوج بالجمال والحزن المشهد الذي يمثل الفقر الجميل البريء بكل تجلياته، ذلك المشهد الذي صار من جزئيات حياتي اليومية، فحين تبدأ عطلة نهاية الأسبوع اشعر بان هنالك نقص في يومي وأشتاق الى إشارة المرور التي صارت تربطني بتلك الجميلة.
وحين يبدأ أسبوع جديد كأن هنالك جرس يرن بداخلي ينبهني بان موعد عناق النظرات قد حان أحدق في عينيها الزرقاوين فتاخذني الى زرقة السماء فكلاهما بنفس الصفاء.
ذات صباح مررت باشارة المرور باحثا عنها بين السيارات لم تكن عيناي تلمحان تحركاتها وبدات دقات قلبي تتسارع مع قرب انتهاء الثواني التسعين ولكن دون جدوى لم تكن موجودة فأحسست بان يومي لن يمر على خير، ذلك النهار لم اقدم مامطلوب مني في وظيفتي فقررت الخروج باجازة لأذهب الى تلك الإشارة علي ارى أو اسمع أو اجد ما يهدء من روعي، ذهبت الى شرطي المرور سائلا عن بائعة التين: مالي لا أراها الْيَوْمَ ؟
تعجب شرطي المرور وقال: الست مديرا لإحدى دوائر الحلة؟
فأجابته هربا من الإجابة: هل اصابها مكروه؟
أجابني شرطي المرور: لا ادري فبإمكانك الذهاب الى بيتها لتجد اجوبة عن ما يدور في خلدك.
أين تسكن؟ سألته
في فندق بابل مع المهجرين.
اعتصر قلبي ألما وكأن شرطي المرور يصفعني مذكرا إياي بآلتهم والأوصاف التي اتهمتها للجميلة ساعة رايتها.
أهي مهجرة؟ سألته
نعم يا سيدي.
ولكن لماذا هذا الاهتمام ؟
لم يحظ رجل المرور بجواب مني لأني لم أكن اعرف شيئا سوى الذهاب الى فندق بابل .
في الطريق الى فندق بابل (حيث المهجرين) استعدت كل الذكريات والصور التي جمعتها عن بائعة التين حيث هروبها من المطر تحت مظلة المرور وكيف غيرت حرارة الشمس معالمها الجميلة.
عند وصولي الى فندق بابل سالت عن عائلة الطفلة ذات التسع سنوات فقيل لي نعم انها سارة ولكن اَي عائلة تقصد فلم يبق من عائلتها الا اب طريح الفراش لا يقوى على الحركة.
وصلت الى مكان سكنها فإذا بها تصاب بالدهشة واشارت ان لا ازعج والدها الذي يبدو انه ينعم بنومته.
سألتها ما اسمك ؟
إجاباتي بلغة لم أكد افهم منها شيئا : ومن انت؟ وماذا تريد؟
هل انت تركمانية؟
نعم ، قالت
أين عائلتك؟
لم تكن تعرف حتى طريقة الحزن المعتادة فاكتفت برفع كتفيها عوضا عن عدم معرفتها بمصيرهم، سوى والدها المطروح ارضاً الذي لاحول ولا قوة بعد ان نفذ عليه مجرمو داعش حكم الجلد الذي اصابه بالشلل الكلي واستأنفت الكلام وقالت: حين قتلت عصابات داعش عائلتي كنت صغيرة، فأنا لا اشعر بتعب لأني لم انعم بالراحة ولم احزن لأني لم اجرب الفرح يوما ،فهذه المفردات يا (عمو) لم تكن تعنيني بشيء لأني لم اعرف نقيضتها.
أذهلتني تلك الطفلة التي تتحدث بلسان اكبر من عمرها، آليت على نفسي ان لا اترك ماتبقى من هذه العائلة بدون مساعدة.
بقيت متواصلا لفترة من الزمن مابين رؤيتها قرب اشارات المرور وبين زيارة والدها الذي يحدثني بنظرات يائسة كونه فقد النطق والحركة ..
في احد ايام كانون الثاني الباردة، مررت باشارة المرور ولم أراها هناك، ذهبت الى عملي ولكن تفكيري بقي هناك وكاني توقعت سوءا أصابها..
بالكاد انهيت يومي وحين مررت باشارة المرور لم يتغير شي فلم تكن هناك ..
قلت في نفسي ربما هي متعبة او ان حالة والدها تدهورت، بقيت اكذب على نفسي محاولا اقناعي بشيء يصبرني .
وفي اليوم التالي كان كل شيء متشابه تماما، واستمر الحال على ماهو عليه لعدة ايام الى ان اخذني الفضول وسالت احد الاطفال المتواجدين قرب اشارة المرور والذي اخبرني ان حالتها الصحية تدهورت وهي طريحة الفراش الان، سارعت الى محل قريب واشتريت لها ما يمكن ان ينفعها، وذهبت الى حيث يقطن المهجرون..
طرقت الباب واذا بوالدها يهمهم محاولا دعوتي للدخول ، فعلا دخلت ولم أابه لاي شي سوى البحث هنا وهناك.
– اين هي؟ سالت والدها

اكتفى بتنحية وجهه عني كانها رسالة ذات فأل سيء.
سمعت احد المهجرين في الغرفة المجاورة يقول:
– من انت ؟ لماذا تسأل عن فرح؟
– فرح!؟ هل اسمها فرح؟!
– بلى، انتهت رحلتها في هذه الحياة.
لم استوعب ألخبر وبدأت ابحر في دوامات الى الدوامات، وقلت في قرارة نفسي، ام ام يسعفني الوقت كي اقدم لها ما تستحق؟ لم لم اتعجل قليلا لعلي كنت سببا في علاجها،؟
وترادفت الاسئلة بلا هوادة …
وناشدت الدنيا :
كم فيك من المتناقضات ؟
فهذه الطفلة اسمها فرح ولكنها لاتعرف معنى الفرح…
رحلت فرح واخذت معها قصص مليئة بالاحزان..

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *