كان للمعلمين في الأهوار موسماً صيفيا ننتظره طوال الفصول الأخرى ، حيث اغلب المعلمين يحزم حقائبه الى فارنا البلغارية أو بودابست وبعضهم يحمله عشقه لصوفيا لورين ويزور روما لتنسيه المعكرونة الإيطالية لذة صحون القيمر التي كانت تجيء مجانا وبالتناوب من بيوت القرية التي تقع فيها مدرستنا .
وحين نعود الى القيمر لا نشتاق الى السباكتي ، فكما يقول احد المعلمين : الأصل كفيل بأن ينسيك أزمنة الابتعاد عنه .
وحينما نرد :ولكن هما شهرين فقط ؟يرد :شهران بدون القيمر عذاب .وهكذا كان القيمر يمثل لنا طقسا يوميا لغموس يمنحنا الطاقة لنكمل اربع ساعات دراسية من دون تعب ، من القراءة الخلدونية وحتى جغرافية الصف السادس.وعندما لا يتوفر القيمر لطارئ ما نعوضه باللبن الخاثر مع الخبز الحار ، ومتى عدنا في إجازاتنا الأسبوعية الى المدن نمتنع عن تناوله ،فيعرف أهلنا إننا شبعانين منه حد التخمة .
واحد من المعلمين أتى منفيا من الحلة ،ومعه أتت علة في الكبد لا يستطيع معها ان يتناول الدسومة ، فكنت أراقب نظراته الى مواعين القيمر وهي مسكونة بأمان وشوق وامنية ، ومتى طلبنا منه ان يتناول قليلا يتذكر نصيحة الطبيب ويقول : العمر ولا القيمر .
لكن من مفارقات هذا المعلم انه وقع في حب فتاة من اهل القرية اسمها قيمر ، فكنا نضحك ونقول له : لقد عوضك الله ، بدل صحن القيمر بصحنٍ من الأنوثة .
وفعلا تقدم لها وتزوجها ، ولم يذهب بها لتعيش في الحلة بل بنى له بيتا من القصب الى جانب بيت أهلها ، وعاش مع قيمر دون الحاجة للالتزام بنصائح الطبيب .
دارت الدنيا وفارقت مدن القيمر ، وعشت أمكنة ترحال عديدة ، وكل سوبر ماركت ادخل اليه ،افتش عن صحن القيمر القديم فلا أجده ، وما اجده بطعم آخر وشكل اخر غير طعم قيمر المعدان ، فهنا يسمونه القشطة ،وهنا ايضاً قيمرا تركيا يسمونه كيمك لكنه لا يمتلك شهية الضوء في تلك الصحون التي نعرف ان جواميسها أتت ممتلئة من ضروع القصب وحولت حليبها الى قيمر ، وكنا نصل الى قناعات ان بسبب القيمر ، ولدت المعيدية ليهيم بها عشقنا صديقنا الحلي ، وربما هناك عشرات النساء بطعم القيمر من سيلدن في نظرات المعلمين في قرى اخرى .
يوم عدت من مهجري البعيد الى المدينة ، تواقا لتناول القيمر الذي كانت تبيعه نساء قادمات من قرى الأهوار في اول شارعنا ، فلم اجد أثراً للمكان ، ولم اجد أمي وأبي في الحياة لأسالهم عن سبب اختفاء النسوة بائعات القيمر. لكني عرفت ان الحياة تغيرت وبإمكان كل واحد عن طريق اليوتيوب ان يتعلم كيف يصنع القيمر .
قطيع جواميس
لكني اردت وبلهفة أن أتناول القيمر الذي كنا نتناوله في القرية التي تقع فيها مدرستنا ،ومع الشوق لاستعادة ذكريات المكان الذي عشت فيه معلما ، فشددت الرحالة الى هناك وانا اضحك مع نفسي وأقول :رحلة ابن بطوطة هذه المرة هي من اجل القيمر.
وصلت في الظهيرة الى القرية ،وكان عليَّ أن اجد مبيتا لأستعيد لذة تناول القيمر في الصباح ، لم يعرفني الناس هناك ، حتى التلاميذ الين كبروا نسوا شكلي ،ومن اسعفني واستجارني هو زميلي المعلم الحلي الذي اقترن بقيمر وعاش في القرية وقد أحيل على القاعد من زمان وهو في كل صباح يقود قطيع جواميسه الى أمكنة القيلولة والقصب.
فرح بي . واستعدنا سوية ذكريات القيمر والفجر الذي يكتسيه المطر ، لكنني انتبهت ان زوجته قيمر غير موجودة ، وحين سألت عنها ،طفرت دمعتان من عينيه ، واخبرني انها توفيت قبل أعوام بعيدة وتركته مع صحون القيمر وليس مع صحون خدها .
وحين أنهيت المواساة وسالته عن عدم الزواج مرة اخرى .
فقال :لا يبدل القيمر إلا بقيمر .وبحثت طويلا فلم اجد امرأة من المعدان بسحرها.