حينما استرجع السنوات التي خلت ارى أن فترة الخمسينيات هي الأحلى والأجمل وهي بحق سنوات الزمن الجميل .. كنا في اواسط هذه الفترة في طور الشباب ، وكانت الأجواء التي تظللنا هي أجواء أدب وفن حتى باتت أحاديثنا لا تخلو من كتاب هادف قرأناه ومن فلم ممتع شاهدناه ومن اغنية جميلة سمعناها .
والواقع ان الادب كان في قمة ازدهاره بعد ان تصدرت مصر هذا المضمار بكثرة ادبائها المرموقين كطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ، وكانت كتبهم تأتي الينا دون توقف في وقت كان القارئ العراقي مشغوفا بالكتاب يرافقه اينما حل وارتحل لا يرتوي ظمأه من حب المعرفة .
اما الفن فكان هو الآخر في قمة نضوجه ، فالسينما المصرية بأفلامها الرائدة كانت تملأ علينا ساعات فراغنا لنشعر بعدها بالمتعة والارتياح ، غير ان الاغنية المصرية كان لها صداها المؤثر على نفوسنا بما تميزت به من كلمات صادرة من الوجدان ومن اداء مميز ومن لحن رائق .
كنا نتذوق هذه الأغاني ونتفاعل معها بل انها لتسحر قلوبنا بما فيها من دفء وعذوبة ، ان جيل اليوم ليس له هذا الذوق الفني الذي كنا عليه اذ فقد قدرة الانسجام معه ، ولعل نشأتنا تختلف عنه اختلافا بينا ، فها انا أذكر ان اذاعة بغداد كانت تبث الاغاني العاطفية اكثر ساعات اليوم ،
ولشدة ولعنا بهذه الاغاني كنا نشتري الاسطوانات لنسمعها على ( الميكرفون ) ثم بعدها انتقلنا الى جهاز التسجيل .
ومن الجدير بالذكر ان نشير الى ان متعتنا هذه لم تشغلنا عن دراستنا .. لا فالمدرسة ومعها المستقبل الذي ينتظرنا كان هو حلمنا وطموحنا ، ولقد كان النجاح هو حليفنا حتى آخر الشوط ..لقد اضفى علينا الادب والفن متعة روحية اشبعت قلوبنا بالدفء والراحة .. اما سلوكنا فانه لا غبار عليه تحت انظار الاسرة والمجتمع حتى انني اذكر ونحن صبية نذهب الى المسجد مع آبائنا لاداء فريضة الصلاة في بعض أوقاتها .
غير انه في فترة الستينيات تراجع دور الاذاعة وقل الاستماع اليها بعد أن حل التلفاز في بيوتنا فكانت انتقالة تغير معها نمط الحياة التي كنا عليها وظهر في التلفاز الكثير من الاغاني التي لم تعد تجاري اغاني العهد الاول برقتها وحلاوتها وسحرها .
أصاب التلفاز العلاقات الاجتماعية وسط الأسرة بمقتل بعد ان انشغل افرادها بالجلوس امام هذا الجهاز ساعات طويلة في وقت كانوا يتحادثون ويتسامرون ..ثم جاءت الضربة القاضية للاذاعة والتلفاز بظهور الانترنيت في السنوات الاخيرة ، ليس هذا فحسب بل ان الكتاب هو الآخر اصبح مهجورا حتى من عشاقه ، لقد اخذت صفحات التواصل الاجتماعي اوقاتهم ، والواقع ان هذه الصفحات فيها الغث وفيها السمين ، فمن اراد ان يكسب معرفة سعى اليها ومن اراد لهوا لجأ اليه .
ان ابناء هذا الجيل افتتنوا بهذه الصفحات التي سحرتهم مغرياتها تاركين وراء ظهورهم صفحات العلم والمعرفة ، اما من بقي من ابناء جيلنا على قيد الحياة فهم على تحفظ ويرون ان بعض هذه الصفحات بما فيها من ادب وفن اعادتهم الى سنوات الزمن الجميل كما يرون ان الصفحات الاخرى بما فيها من عبث افسدت العقول والسلوك.
انه امتحان عسير فليت شعري لو أن ميزان المعادلة لم ينحرف عن مساره حتى تكون كفة الخير هي الرابحة وكفة الشر هي الخاسرة .. حينئذ فحسب يستقيم الامر ، ومع ذلك تبقى الحسرات والآهات في نفوسنا على تلك السنوات التي مضت .. سنوات الزمن الجميل ..وان الحديث ذو شجون .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *