أول مرة يصادفني كتاب مذكرات شخصية مكتوب بالعامية، هو في تعبير أدق سيرة ذاتية شعرية حملت عنوان -الفاجومي- لشاعر العامية المصرية الشهير أحمد فؤاد نجم ، بالرغم من انّ الكتاب صدرَ قبل ثلاثين عاماً بالضبط، في الفترة التي كنّا خلالها في العراق داخل حصار خانق يمنع وصول أي كتاب جديد الينا.
الكتاب قدّم له في صفحات رشيقة ذات نكهة سياسية تاريخية الكاتب المعروف صلاح عيسى وزميله في «مرمطة” الكتابة والسجون والسياسة، وحملت المذكرات عنواناً فرعياً يقول « تاريخ حياة مواطن شايل في قبله.. وطن». وكان فؤاد نجم صاحب لقب الصعلوك بامتياز في الوسط الثقافي والسياسي بمصر في بداية حقبة الرئيس محمد أنور السادات، وكان قبلها من أبرز المعارضين لجمال عبد الناصر الذي زجّ به في السجن في منتصف العام 1968، ويبدو ان القرار كان منه شخصياً. في المذكرات حكاية صغيرة طريفة وحزينة في آن واحد، تدلل على مدى الرعب الذي كان ينتاب عبد الناصر من رموز الثقافة التي لها موقف معارض لحكمه.
يروي كاتب المقدمة صلاح عيسى، انه في أيام ارتفاع صوت المقاومة الفلسطينية في انحاء بلاد العرب ومصر خاصة، زار القائد الفلسطيني المعروف نايف حواتمة الذي كان رئيساً للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الرئيس عبدالناصر، وقال انّ لديه طلباً يتمنى أن يكرمه الرئيس فيحققه له، وابتسم عبدالناصر قائلاً:
-أأمر يا نايف.
فتشجّع نايف حواتمة، وقال انّه علم انّ هناك ثلاثة من الكتّاب والادباء معتقلون في السجون المصرية، هم الشاعر احمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى وصلاح عيسى، وأنه يتمنى أن يستجيب الرئيس لوساطته فيفرج عنهم.
فتجهّم وجه الرئيس عبد الناصر، وقال بجفاء لم يفلح في إخفائه:
ما تتعبش نفسك، الثلاثة دُول مش حَ يطلعوا م المعتقل طول ما أنا عايش!
وبالفعل ذلك ما كان، أي انَّ عبدالناصر مات بعد شهور قليلة وخرج الادباء الثلاثة مع بداية حكم السادات الذي أمر بتصفية المعتقلات بعد أن تمكن من وضعه السياسي في الشهور الأولى من حكمه.
كم كان عبدالناصر صغيرا في هذه الحادثة، كان يريد بقراره أطول فترة ممكنة في السجن على اعتبار انّ عمره طويل وانهم سيخيسون في السجن مادام حياً.
كم تعطي هذه الواقعة درساً للحُكّام الذين يمرون في المشهد السياسي في العراق وسواه، ولا يرون أبعد من أقدامهم. ثلاثة أدباء بينهم صعلوك كانوا يرعبون الحاكم الذي تسير وراءه الملايين من مشرق بلاد العرب الى مغربه ،مصفقين ومطبلين، فيما كان يأخذهم الى حتف الامل العربي في هزيمة نكراء، لا تزال تدفع الامة والفلسطينيون ثمنها الغالي حتى اللحظة.