لم أجد في معجمنا العربي معنى يذهب للدلالة نفسها التي تقصدها اللهجة العامية باستعمالها لكلمة ( وعثْ ) بكسر العين ، ولا سيما المعنى المتداول في مناطق الفرات الأوسط ، بل جاءت دلالتها بمعان مختلفة ، مع ان اللهجة العامية في هذه المناطق أقرب من غيرها للغة الفصيحة كاستعمال كلمة ( الوهاد ) مثلا ، كأن يسأل أحدهم عن شخص معين ، فيقال له بالوهاد : أي خارج البيت . ويراد بالوعث الفراتية الأشياء التي لا قيمة لها لقدمها او عدم صلاحيتها ، لكنها مع ذلك ما زالت موجودة بالرغم من تلويثها لجمالية الأمكنة ، ومزاحمتها للمفيد من الأشياء .

حضرتني هذه المفردة أثناء جولتي بمناسبة العيد لتفقد بعض الأقرباء من سكنة قضاء الشامية الواقع بين مدينتي الديوانية والنجف ، ليصادفني على طول الطريق الكثير مما يندرج ضمن وصف ( الوعث ) ، أكداس من سكراب الحديد ، أكوام من مخلفات البناء ، سيارات محترقة منذ سنوات ، وأشياء اخرى انتفى الغرض من وضعها ، لكنها نُسيت ، او جرى التعامل معها بلامبالاة واضحة ، كما هي حال الجدران والحواجز الكونكريتية التي وضعت لدواع أمنية ، وكذلك البنايات المشيدة ( بالجينكو والسندويج بنل ) ، والغرف المتناثرة المبنية بمادة البلوك التي أنشأها أصحابها مأجورين لخدمة زوار الامام الحسين (ع) بطريقة بدائية وعشوائية لا تليق بهذه المناسبة العظيمة ورموزنا التاريخية الكبيرة ، ويزداد التلوث البصري سوءا مع النفايات التي رمتها سيارات البلدية على جانبي الشوارع العامة التي توصف بالدولية لربطها العاصمة بمحافظات مهمة كالنجف وكربلاء المقدستين ، ولا أدري كيف سينظر لنا الزوار الأجانب عندما يمرون بهذه الطرق والمناطق المحاذية لها بدءا من منطقة أبو دشير جنوب بغداد وصولا الى قضاء الشامية .

كما صادفتني لافتات معدنية ثابتة مكتوب عليها : ( محمد قدوتنا ) ، لكن للأسف الشديد كل ما تراه لا يعكس ما يريده نبينا العظيم ، وفي مقدمته النظافة بضمنها نظافة البيئة التي نعيش فيها ، وينطوي موروثنا على الكثير من المضامين التي تحث على النظافة : ( النظافة من الايمان ) ، ( تنظفوا ان الاسلام نظيف ) ، لكني وجدت الواقع أبعد ما يكون عن الاسلام والايمان .

المعروف عن الجيش ومختلف صنوف الأجهزة الأمنية انها مدارس لتعليم النظام الصارم ، وان تنظيف مقر الوحدة من الداخل والخارج سياق عسكري ثابت يجري بانتظام وبمشاركة جميع المنتسبين ، فما الذي حدث لسيطراتنا الثابتة تحيط بها النفايات ، ومنها لم تنظّف منذ أشهر كما رأيت ؟ وأكثر تلك النفايات كوكتيل من قناني المياه الفارغة وأكياس النايلون وعلب العصائر الكارتونية وأعقاب السكائر ، اما السيطرات المتنقلة فغالبا ما تخلّف وراءها بعد انتهاء واجبها اطارات مستهلكة وقطع من البلوك وعلب معدنية ( التنك ) وجذوع النخيل ، أظن ان تخصيصات أجهزتنا الأمنية بالمليارات ، وان تجهيز السيطرات بالشرائط الملونة والمثلثات البلاستيكية لا تشكل شيئا ذا قيمة ، لكن استعمالها يعكس صورة ايجابية عن هذه المؤسسات تتناسب مع حجم مهامها الكبيرة التي يتعذر وصفها .

حدث أن تجولت بنواحي الاسكندرية التابعة لمحافظة بابل وهي المنطقة الصناعية الأولى في العراق ، والمهناوية والصلاحية الزراعيتين العائدتين لمحافظة القادسية، فوجدتها كما رأيتها أول مرة قبل أكثر من خمسين عاما ، لا يمكن وصفها الا بالوعث ، والفقر باد على أهلها ، ولا حاجة لك أن تسأل أحدهم عن حاله ، اما مركز الشامية وأريافها فيُرثى لها ، بالرغم من ان هذه الأرياف تعد أبرز سلال الغذاء العراقي من الحنطة والرز ، ألم تسمعوا بعنبر الشامية ؟ ، لم تنصف هذه المناطق وأهلها اطلاقا في كل أزمنة الدولة حتى مع الوفرة المالية ، لكن سرعان ما تتوجه اليها الأنظار عندما تمر البلاد بمحنة وآخرها داعش الارهابي ، كان الله تعالى في عون هذه المجتمعات المبتلاة بالوعث السياسي ممثلا بنوابها البرلمانيين ومسؤوليها المحليين ، اللهم خلصنا من هذا الوعث ، ليكون عيدك بطعم الشهد .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *