أن أساليب التضليل في التمويه على صناعة الخراب, وفرض السلطات السياسية و العسكرية و الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة على البلد قبل وبعد الاحتلال لم تزل تمارس ما يؤكد دينامية تلك السياسة وفق الخطط الاستراتيجية المعدة سلفاً من قبل المراكز البحثية , وليس مثلما يعتقد كثيرون خلاف ذلك. و ثمة إتجاهات لدى الجمهور يتداولها إثر أصابتها بالاحباط و القنوط من الاصلاح , ترى في أمريكا الوجه الحسَن و الجهة التي ما برحت تسعى الى تغيير الواقع السلبي و تحسين جودة الحياة و الحلم بتحقيق تطلعات العراقيين بالديمقراطية و مرتكزاتها في الحرية و العدالة و المساواة و النهوض. تلك التطلعات التي عجز الشباب من تحقيقها في حراك تشرين , رغم تضحياتهم الجسام على مدى ستة أشهر . أقول أن الاصلاح يبدأ من الشعب بالتعليم و الوعي و صندوق الاقتراع للتغيير و بناء الدولة المدنية في مجتمع متعدد الأثنيات , و ليس سفك الدماء التي أعتادت عليه الاحزاب في عملية الازاحة مثلما يشي تاريخ العراق السياسي منذ تأسيس الدولة قبل مائه عام ونيفٍ. و التغيير أيضاً ليس بالاتكاء على جهات خارجية أثبتت السنوات الماضية فعلها بالأشراف على عملية التفكك و الاضطراب و مزيداً من الخراب. أن مفردات حقوق الانسان و الديمقراطية التي رفعتها أمريكا في حربها ضد العراق على أهميتها و جمال رسمها الذي يلتقي مع تطلعات الجمهور الذي ظل يتشوق الى تحقيقها, هي ذاتها التي أستخدمت من قبل ضد فيتنام و المانيا, فقد ذكرت مصادر تاريخية (إن الهدف من قصف دريسدن , العاصمة الباروكية لساكسونيا الالمانية , التي لم يكن لها أي أهمية عسكرية أو إستراتيجية قتل 40 ألف ألماني من سكانها , و بكلمات قائد القوات الجوية المشير آرثر هاريس , هو تقصير أمد الحرب و الاطاحة بالنخبة السياسية من السلطة في المانيا).
ومثل هذه المدينة كانت كل الاراضي العراقية هدفاً للتدمير فقد أطلقت الولايات المتحدة 127طناً من ذخائر اليورانيوم المنضب في العراق , و هذا يكافئ ذرياً ما يقارب عشرة الاف قنبلة ناكازاكي(اليوت وينبرغر/ ما سمعته عن العراق ) و قد أكدت الايام و السنوات التالية و ما أستخدم من أسلحة إبان حربي 1991و 2003 وما بينهما من حصار قاسي آثارها المرعبة على الانسان و الحيوان .فقد سبق لنا نشر تقارير صحفية في صحيفة الجمهورية عام 2001يكشف عن أرتفاع مستوى الوفيات و التشوهات الخلقية لدى الاطفال بلغ في ذلك العام 200 حالة تشوه , أي وقوع حالة كل 45 ساعة مسجلة في مستشفى الولادة و الاطفال بالسماوة عدا الحالات غير المسجلة , في ما ظهرت تشوهات بأشكال مختلفة على الاغنام و الأبل في بادية السماوة , التي شهدت تقدم القوات الفرنسية و الامريكية عن طريق قضاء السلمان غربي السماوة 140 كم و إرتكاب جريمة دفن جنود و مدنيين و هم أحياء في البادية , و حينها كشفتها بالأدلة و الصور في صحيفة الجمهورية , و مازالت آثار جريمة إستخدام اليورانيوم المنضب منتشرة في المدن و القصبات و البوادي العراقية . فقد كشف فريق طبي في جامعة أولستر الأيرلندية أن معدلات الاصابة بسرطان الدم في هيروشيما إزدادت بنسبة مفجعة بلغت 660بالمئة بعد مرور 12 الى 13 سنة على التفجير النووي و هي المدة الزمنية التي تبلغ فيها مستويات الاشعاع ذروتها . و في المقابل بالفلوجة فأن معدلات الاصابة باللوكيميا زادت بنسبة 2200 بالمئة خلال مدة زمنية أقصر بكثير, و أكد الباحث كريستوفر باسبي أن أستنتاجات الاطباء المدعومة بالبيانات خلصت الى وجود زيادة بنسبة 1260 بالمئة في معدلات الاصابة في إصابات اورام المخ (الزمان, العدد 7550, 4 نيسان 2023نقلاً الغارديان البريطانية.
و ثمة تشوهات عديدة أنتجها التحول الصادم نحو الديمقراطية أصابت القيم الاجتماعية و بنية الدولة , سبق أن أشرنا اليها في مقالات نشرت في الزمان و لا نريد تكرارها , مثل استشراء السلاح غير المنفلت و الامية و الخرافة و الفساد و المحاصصة و المخدرات و النزاعات العشائرية و الصراعات الطائفية و نحو ذلك من معوقات حالت دون النهوض و الارتقاء بوطن و شعب أثقلته الخطوب , التي يتوجب على الدولة و قادة الرأي و الكفاءات و علماء الدين ووسائل الاعلام الوطنية المستقلة و منظمات المجتمع , أن يبحثوا في معالجة صادقة و جادة قائمة على المواطنة لا القومية و المعتقد , بعيداً عن الانانية والمصالح الذاتية لانقاذ الانسان و إستحضار الخصال النبيلة الغاطسة في الذات العراقية . و بخلافها فأن التحديات والتهديدات ستظل ترافق المجتمع (أذا لم ينلها مصلحون بواسل / حريصون في ما يدعون كُفاة) الجواهري.