بعض المدن تترك فينا أثرًا عميقًا لا يندمل، ولا يتلاشى أبدًا، تترك فينا عشقا ليس بعده عشقٌ آخر، فتبقى تعيشُ داخلنا حتى بعد رحيلنا عنها، فلا مسافات ولا حدود تستطيع فصلنا عنها أو نبذ حبنا وحنيننا الكبير إليها، تبقى لها ذاتُ الهيبة بوجودنا داخلها أو ببعدنا عنها فنشعر بحرارة دموعٍ حارقةٍ تتسلل وجناتنا لدى ذكرنا لها أو حتى مرور شريط ذكرياتٍ لها، ولنا فيها داخل رؤوسنا.
بعض المدن لا ننفكُّ نتمسكُ بأمل الرجوع إليها طمعًا بذات الشعور الذي أهدتنا إياه في المرة الأولى حيث استنشقنا فيها أولى ذراتٍ من الأوكسيجين الذي يحمل طابعها وحبها اللذيذ.
بعض المدن تأسرنا فلا نرى بجمالها أبدًا، ولا نعلم سِرًّا لتعلُّقِنا بها بِغضِّ النظر عما إذا كانت مدينتنا الأم التي ننتمي إليها حقيقة، ولكني أرى أنَّ في الأمر سحرًا يشبه تمامًا سحر “الحب من النظرة الأولى”
هي المدينة المتربعة كزهرةٍ مُتفتِّحةٍ بدلالٍ على جبال القلمون التي تمتد من جنوب دمشق إلى حمص، تقع في الريف الدمشقي وتُعد مدينةً من مدن الجمهورية العربية السورية نظرًا لِتطورها السريع والحديث بسبب تعاون أبنائها ومثابرتهم في العمل والعطاء وتوسُّع النهضة العمرانية وتقدُّم مناحي الحياة حيث أُقِيمَت المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة والمتنوعة فوق أرضها، وبسبب توفر الخدمات بالمدينة وقربها من العاصمة دمشق التي تبعد عنها قرابة 14 كيلومترًا قصدها المواطنون من أجل السكن والإقامة الدائمة فيها “هجرة داخلية” لِما وجدوه من تقدُّم ورُقي فيها وبالطبع لِما يحمله أبناؤها من حب الخير ومد يد العون للجميع بلا تردد.
سميت مدينة التل بهذا الاسم نسبةً إلى موقعها الموجود على تل مرتفع بأعلى الجبل حيث انتشرت مساكنها القديمة في بداية السلاسل الجبلية ومن ثم امتدَّت وتوسعت بشكل ملحوظ، لتوجد على ضفاف الوادي، ويمر منها طريق ينزل إلى مدينة دمشق ومنطقة برزة باتجاه الشمال.
نشأت المدينة على أنقاض ثلاث قرى أثرية قديمة تهدمت بفعل الزلازل وهذه القرى هي: (قرية قواصر، قرية بطيحة، قرية قسيمية) ثم انضمت إليها قرية حرنة الموجودة على الجهة الغربية من الوادي حيث كنتُ أعيش.
يعمل قسم من سكان مدينتي بالزراعة إذ تنتشر بساتينها على ضفاف الوادي الغني بالتربة والمياه النقية، وتكثر فيها أشجار الجوز والتين والتفاح والمشمش والزيتون الذي أخذت أشجاره تتزايد، ونتيجة ذلك تمت إقامة معصرة حديثة في المدينة لاستخراج زيت الزيتون، والتجارة والصناعة بنوعيها الحديثة في المصانع الموجودة بالمدينة، واليدوية المتمثلة في الغالب بالنقش على الحجارة والخشب التي اشتهروا بها.
إضافة إلى فئة الأطباء والمحامين والمهندسين والمعلمين وغيرهم ممن ينتمون لدائرة التطور والتقدم للمدينة.
أما عن القسم الآخر من سكان المدينة فقد آثر الهجرة إلى دول الخليج للحصول على العمل وبخاصة في المملكة العربية السعودية حيث عمل أغلبهم في المقاولات والبعض منهم في التجارة والصناعات التقليدية كحرفة النقش على الحجر والخشب وزخرفته، وغيرها من الأعمال التي تمكنوا من الحصول عليها في غربتهم المرَّة.
تحمل وجوه أبناء مدينتي الطيبة وتمتزج بملامح البساطة أما عن قلوبهم فهي معجونةٌ بحب الخير والتعاون ومساندة الغير ولذلك تعد مقصدًا وحضنًا آمنا للنازحين من المناطق المتضررة بسبب الحرب والقتال.
أما عن الجانب الثقافي فهي غنية جدًّا بمثقفيها وكتابها وشعرائها، ويعدُّ المركز الثقافي الجديد بالمدينة مقصدهم جميعا حيث يحتوي على مكتبة تضم العديد من الكتب بمختلف الأنواع، وغرفة واسعة للقراءة وقاعة ندوات شعرية وفعاليات ثقافية، ولأن الطفل هو المستقبل الواعد فقد اهتموا بنشأته نشأة سليمة فخصصوا له مكتبةً تناسبه وفعاليات تساهم في صقل معارفه وإدراكه داخل المركز.
أي مكانٍ قد يكون أقرب إليَّ وأجمل بالنسبة لي من ذاك المكان الذي أعتبره ملجئي حيث كنتُ أحتمي فيه من ضغوط الحياة وصعوباتها، حضنٌ يحتويني بدفئه من برودة الواقع وجفاف الأمل، مصدر الطاقة الروحية التي تزيدني إصرارا واستمرارا لتحقيق أحلامي.
تتميز مدينتي بوجود الجامع الكبير ذي القبة الزرقاء التي تضفي على جمال المدينة سحرًا خالصًا وبصمةً مميزةً تترك أثرًا لكل من رأى المدينة من بعيدٍ، ومع كل اقتراب يزداد ذاك الأثر ليصبح بصمة حب على قلب كل زائر.
هناك أيضا المنتزهات الخلابة والهادئة التي تعد مقصِد كل من أراد الاستمتاع وأخذ قسطٍ من الراحة، ولن تكتمل رحلة الاستمتاع طبعا بدون الطعام اللذيذ فهناك تكثر المطاعم على اختلاف الأنواع التي تقدمها والأصناف التي تصنعها بكثير من الحرفية والحب.
يتوسط المدينة في الساحة سوق فيه كل ما يحتاجه الساكن في المدينة، بالإضافة إلى مِحال الألبسة المنتشرة في أغلب مناطق المدينة.
في النهاية المدن هي من تسرقنا بجمالها وتميزها وتجعلنا نقع في شباك حبها والحديث الذي قد لا ينتهي عن حبها ووصفها وتمييز ما يجعلها مختلفة في أعيننا عن سواها، وإن لم ينتهِ الحديث عنها فبالتأكيد له بقية إما بقلوبنا أو خيالنا أو حتى حديثٍ حقيقي صادق مع غريبٍ عابر في حياتنا قد يقعُ في حبِّ زهرةٍ متربعةً بدلالٍ على جبال القلمون، وقد يتوق معنا للقاءٍ قريبٍ بإذن الله.