لا شيئ يأتي من فراغ، هكذا تقول الحكمة الاغريقية، وما من أمر يحدث مصادفة وان ظنناه كذلك، فحياتنا مسارات لخطوط تلتقي تتقاطع تبتعد تتوازى كشفرة خطت بيد القدر حتى لكأننا نهرب فيها من اقدارنا إلى… اقدارنا،ولأن الكتابة قدري الجميل وجدتني في مصادفة عجيبة مشدودة بحبل سري الى تلك القامة السامقة والكوكب الدري المتلألئ في سماء الشعر العربي الحديث، هي رائدة الابداع الشعري العراقية نازك الملائكة، لأحمل صليبها وأدفع بصخرة أوجاعها السيزيفية فوق مفازاتها ولاعيش عذاباتها اشاركها مخاضاتها الفكرية وصولا إلى حلمها العلوي، لتستحوذ سيرتها بأدق تفاصيلها على تفكيري واهتماماتي. كسرت نازك القوالب التقليدية وانطلقت بروح شجاعة وبحرية يؤطرها وعي متقدم الى مديات غير مسبوقة فأحدثت عبر قصائدها الأولى، الكوليرا، و شظايا ورماد، منعطفا ادبيا في عالم الشعر العربي. اما على صعيد النقد فقد عبر خطابها النقدي عن وعي وإمكانيات استبصار نقدي مثلما عبر عن عمق الرؤية وقدرة خصبة على فهم الظاهرة الإبداعية وتحليلها.تعرضت الملائكة في بداياتها لانتقادات قاسية حتى من اقرب المقربين لها ومنهم والدها الذي كان يخشى عليها من ردة فعل النقاد ولعلمه بفرط حساسيتها وحاول غير مرة ان يثنيها الا انها كانت مصممة على المضي قدما في مشروعها الابداعي قائلة دعهم يشتمون ويقولون ما يشاؤون فانها واثقة من ان قصائدي ستغير خريطة الشعر .اللافت للنظر اختلاف النقاد في اسبقية الريادة والشاعر الكبير السياب ولكن ما يهمنا هنا هو ريادة المرأة في التجديد وما تحمل من دلالات عميقة على خصب وتحضر المجتمع العراقي آنذاك ابان الستينيات ما يمثل اشارة واضحة الى انتمائه الحي قرونا طويلة متراكمة من الخلق والابداع..لتظل نازك رمزا ادبيا وطنيا وعربيا بارزا للتجدد والشجاعة المؤطرة بثقافة غزيرة ويظل استذكارها مناسبة عراقية اصيلة لانبعاث الامل واحتفاء بالعطاء العراقي النسوي .
هذه الايام يحتفي العالم بمرور مئة عام على ميلاد شاعرتنا الكبيرة، في غيابها نمسك اخر ماتبقى من شظايا ورماد، لعاشقة الليل، الهائمة في “قرار الموجة”، أو تحت “شجرة القمر”، فيغير البحر الوانه.