– الولوج في سفريات الهامل قراءة تحت النص تكشف غالبا قصائده الحبلى التي تاخذ شكل الهرم..؛ هنا كل الاشياء تحتمل حضورا عجائبيا في كنه اللغة و الجدليات القاتلة..؛ تماما كما للشعر الحداثي غموضا معقلنا يجعلنا لاشعوريا نزاوج الاضداد التي تبقى أمرا واردا كلما غرّد النص .
– في باكورته الشعرية الصادرة عن رابطة الاختلاف يخُط الشاعرما يحلحل مزاجه بلغة الرمز..؛ نعني اللحظة القاسية التي تنفثه خارج الرقعة فتجعله ” لاأدريا ” ..؛ حيث يتراءى لنا أنه مُقبل على خط انتحاري في كتابة قاسية : ” عمى في القدم الجذلى على أرض لم تقلنا كما يجب / يُتم يشد للبر جنون النجوم المتطافئه .. ” الى ان يكتفي باختزال متاهته و تقليص درجة الارتياب ؛ و يعرج على بسط الكتابة من تلابيبها الى المباشرة المترفة : ” … سأعلمك الكأس ../ و القبلة / و الجرح .. و أنساك ” ؛ فالشاعر هنا أحس بشرارة اللاوعي و هي تسري في دمه كلما تمادى في النعت ؛ لذا نراه يتعرى بعد كل جملة ملغزة بلفظة ” أعني ” : “بخطا الأعالي / أعني على المتاه ../” ” في خسران له بلاغة الهدهد / أعني على السكوت ” ؛ كما يتجلى ذلك أكثرفي قصيدة ( الملكة ) .. حيث نقرأ : ” آخر الديمومة برية تُلخص تيهها في صرخة / بمعنى – أني اختفي لأشهد احتفال الزوايا .. ”
– من جانب آخر ؛ الهامل في تجربته يصنع نصا متدفقا ينصهر في الأخيلة ؛ و يتسلق شجرا غرائبيا لم يصله احد من قبله ؛ و الدليل على ذلك أننا نلمس في آخر انفاس نصوصه لغة الدهشة و رعشة الخراب ؛ هو يفاجئنا لما نقرا له : ” في عيني عصفورة ترسم على كفي غناءها ..” تصوير مهندس بهذه اللغة الملغزة لا يمكن باي حال من الاحوال أن يكون مجرد طائر يترنح في حدود نظره ..بل يتعداه الى رزمة من التصورات التي تتطاير من القراءة التحتية لهذه الفكرة؛ مثلها مثل الكثير من الافكار التي تحتاج الى ناقد حصيف يفجر لغة الهامل شظايا.. كي تطلع منها درر الشعر .
– في كتاب الشفاعة أيضا ؛ نرى جانبا مدلفا بالتقاطعات التي تتجلى ما بين تخوم الكتابة و الكبت ؛ تترجمتها عبارات : / السهو / جنوني /أناي / اختلاج / خلاء القلب .. و غيرها من اجراس الذات ؛التي ترج الحالة و تجعل صاحبها ينسل من جلده و يصافح الاشياء عن كثب ؛ فهو ينمي ” الشجر الذي يصد الريح عبثا ” ؛ و يرسم ” الموج الذي تتناهى في زبده أعمار الكائنات ” مثلما يكتوي بــ ” النار التي التي تفتح معارجا في الطريق ” و ” ينفثُ في غبار الوهم ” كلما اشتدت به الفلاة ؛ ..هو يمارس كتابة خطيرة تجلت في طرحه العلائقي ما بين الحالة و المكان وأجراس الهاجس..؛ و يمتد اثر هذه الاجراس الى جعل ” الموت ” راجحا بقوة الصيغ الدالة عليه؛ و كثيرا ما نصادف ذلك في جل نصوص المجموعة اين تأسرنا مرادفات هذا المارد مثل الهتك و الحتف و الردى و الهلاك ..؛ و لا شك أن تبرير ذلك يُحيلنا مباشرة الى التصنيف الشهير لــ” رودولف انجر” الذي علل كل كتابة من هذا القبيل بكونها نتاج علاقة الانسان بالموت كمشكلة .
– الشاعر من خلال تنين الممارسة يمتطي تيار الوعي الذي يسهل القبض على الشعر؛ فيقول مسندا رأسه على حجر الذاكرة : ” .. قلت أخوض في الطفولة / اشكل لعبي القروية من / بقايا الحروب ؛ فكانت اللعب تُنسى … ” كما اسند ظهره على جراحات تاريخية تعكسها هيروغليفية ( لوركا ) التي تذكرنا ببزوغ الاصلاحات السياسية و الاجتماعية باسبانيا في مطلع الثلاثينات ؛ و ذلك على يد الجمهورية الثانية التي صدها التيار الفاشي بحرب اهلية طاحنة كان لوركا واحدا من ضحاياها ..؛ و لا ريب أن شاعرنا و هو يحيلنا الى الزمن الغرناطي النابض باهازيج الغجر يحصي هذه الكرونولوجيا عن ظهر قلب.
– و قد لا يدل كل الذي ذكرناه ان الهامل لم يركب حصانا غير حصانه ؛ باعتبار أن المادة الأدبية في تماهياتها هي نتاج نصوص سابقة كما اجمعت عليه احدث الدراسات المهتمة باشكالية النص الغائب ؛ و لعل ابرزها ما أشار اليه ” جنيت” بخصوص تداخل النصوص جراء تراكمات الحضور الفعلي لنص داخل نص آخر؛ اين يتراءى لنا الشاعر نزار قباني و هو يرفرف على ماء القصيد كطيف..؛ لكنه سرعان ما يأفل .؛. لأن الهامل قوض هذا الحضور و اعاد الصياغة بشكل جديد لما قال “.. تبارك النهد / و القدم الصغيره..” .
– تبقى الاشارة الى ان ديوان كتاب الشفاعة ؛ هو هامة الاغتراب التي تجعل من القراءة رهيبة و مدهشة ..؛ هو مادة جديرة بالقراءة الواعية التي تجعلنا نتسلق قامة النص ” حسيا “..و مرئيا ؛ و الهامل من خلال هذا الفيض يشعرك انه لا ينتمي الى ” الأنتلجانسيا ” ..؛ فهو يكتب للذين يقبعون في الظل .. للعشاق و المهمشين المهشمين .. للمعذبين في الفلاة والقرى و الملاجئ و المزارع و الأكواخ النتنة..؛ هو باختصار شديد يؤسس من خلال هذه الباقة لنصوص خارج الزمن و العرف و المألوف بمعزل عن لغة الأوتاد و الجمال..اوليس هو القائل من صحراء تندوف : ” افعلوا مثلما فعل رامبو.. اجلسوا مثل رينيه.. رقصة زوربا .. دوروا القصيدة مثلما يفعل الخزاف بكتلة الطين.. ” .