الكاتب /سعد القرش
لم أخطط للكتابة عن المجموعة القصصية الجديدة «بلاد الطاخ طاخ» لإنعام كجه جي؛ فما أكتبه أحيانا عن عمل فني أو أدبي أو فكري، في فترات متباعدة، ليس إلا انطباعات عفوية، لا تدّعي النقد، ولا تلتزم منهجا في القراءة والتأويل. لا يختلف سلوكي عن حفاوتي السابقة، قبل أن تصير الكتابة همّا جميلا. كنت أفرح؛ فأكلم أصدقائي عن كتاب أو نصّ أعجبني في هذه المجلة أو تلك، ولم تحدث نقلة نوعية إلا في ترجمة الشفاهي التلقائي، إلى كتابيّ ينتظر قراؤه شيئا من الانضباط، ولا يتسامحون. تأملت غلافي المجموعة، ولم أفضّ غلافها البلاستيكي، وأجّلت قراءتها، وجاء معرض القاهرة للكتاب، فأضجرني ابتذال «القوة الناعمة».
الابتذال يُفقد الكلمات طاقتها التعبيرية. شيء من الترشيد، ومراعاة المقام والسياق، يحفظ للغة بهاءها، ولمحتواها هيبته. وذهاب البهاء والهيبة يؤدي إلى النقيض، ويستدعي السخرية. في يناير 2015 تكلم الرئيس المصري عن «الثورة الدينية»، فتلقّف مماليك صغار وكبار هذا المصطلح، بإلحاح منفّر ومضجر أمطرتنا به الصحف والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، كعنوان فارغ من المضمون يستهوي رموز ثقافة الشواشي، يتفننون في الطلاء الصارخ لواجهات تستر عورات. خبا مصطلح تجديد الخطاب الديني، ولا يزال مصطلح «القوة الناعمة» يجد من يلحّ عليه، وينتهز المناسبات لإعادة التذكير بما كان لمصر من تأثير في محيطها، ويجهلون أن «الهروب إلى الكلمات دليل على غياب المعنى»، وفقا للمهدي المنجرة.
يخرج مصطلح «القوة الناعمة» الآن من جراب حواة مفلسين، يفتشون في الدفاتر القديمة عن عزاء في مجد غابر، ويريحهم اللجوء إلى قاعدة «كان أبي». في نهاية حكم حسني مبارك أشاعوا، بالمنّ والتضليل، أن مصر تعيش «أزهى عصور الديمقراطية». ولا تحتاج الأنظمة الديمقراطية إلى هذا الإعلان، استهلاكا محليا أو تصديرا إلى العالم. لا يتشدق مسؤول في نظام ديقراطي بثرثرة عن الديمقراطية، ستكون صحته العقلية موضع تساؤل. أن تتنفس وتتمتع بالصحة والسلامة فلن تُعنى بالكلام عن فضائل الأكسجين. وكان لمصر تأثير أكبر من ابتذال الكلام عن قوتها الناعمة. قرأت مرة أن فريق «الوداد» المغربي (1937) استلهم اسمه من فيلم «وداد» لأم كلثوم.
عرض فيلم «وداد» في مهرجان فينيسيا عام 1936، وربما سبقته إلى المغرب أفلام مصرية أخرى. اختلفت القوى الاحتلالية الأوروبية وتحاربت، لكنها اتفقت على إبعاد الجسد الإفريقي الحرّ عن الشاشة، إنسانا طبيعيا فاعلا وبطلا. أبقى الاحتلال على هامش للتمثيل العرقي للأفارقة في الأفلام الأوروبية، لإرساء دعائم التحكم في الأفارقة. منعت بلجيكا مواطني الكونجو من دخول السينما، ثم سمحت لهم بمشاهدة أفلام ينتجها البلجيكيون. وحظر القانون البريطاني على الأفارقة مشاهدة الأفلام الأوروبية والأمريكية، بما فيها ما صوّر جزئيا في إفريقيا. وأصدر بيير لافال وزير المستعمرات الفرنسي «مرسوم لافال» لمنع الأفارقة من صنع الأفلام. كان الوجود الإفريقي في الأفلام يناسب التصور الكولونيالي للسود.
رأى المغاربة بشرا يشبهونهم، يعيشون ويحبون ويغنون ويتكلمون العربية، رأوا أم كلثوم على الشاشة، وأحبوا «وداد». وقبل ذلك كان العرب قد اختاروا شوقي أميرا للشعراء، بدت «المبايعة» تحصيل حاصل لمصر ذات الصدر الرحب الذي يأوي الثائرين، ويحنو على المغضوب عليهم، ويتسع للباحثين عن فضاء لإطلاق مواهبهم. لم تفرق بينهم وأهلها، ولم يهتم مصري بأصول أحمد شوقي وخليل مطران وأبو خليل القباني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمود بيرم وجرجي زيدان وماري كويني ونجيب الريحاني. أما الآن فيصعب أن تتخيّل عالما غير مصري شيخا للأزهر، كما كان محمد الخضر حسين. وفي الوقت نفسه نطالب باستحقاقات الريادة، بالإصرار على إدمان مقولة جعلها الاستهلاك مضحكة.
الشيء الذي لم تتقنه مصر آنذاك هو المنّ على الأشقاء، وتعداد كم أرسلت من مدرسين وأطباء وأدوية وأموال وأطعمة، وما أنتجت من أعمال ثقافية وغيرها من عناصر «القوة الناعمة»، ليس مراعاة لغضب جوزيف ناي؛ فيندم على صوغ المصطلح. شيدت مصر دورها ومكانتها بأثمان كبيرة، أكبر من المصطلح. الغنيّ يشغله اجتهاد متواصل لتأمين مكاسبه، بتجويد قدراته وتطوير أدواره. والفقير يزهو بما يفتقده، ويحصي ما يملك وما لا يملك، تفاديا لمعايرته بالنقص. وكان دور مصر مسؤولية تحملتها انطلاقا من التزامها بالواجب، من دون انتظار لرد جميل سيردّ تلقائيا وقت الشدائد. فماذا تملك مصر اليوم من وسائل التأثير السياسي والبحثي والتعليمي والإعلامي والرياضي؟
أصابتني عدوى الإفراط؛ فطالت مقدمة لم أقصدها أكثر مما ينبغي، وأبعدتني عن قصص «بلاد الطاخ طاخ»، وعن إنعام كجه جي التي تكتب سردا يتسم بالشياكة، لغة بميزان الذهب، حيوية أنيقة، نابضة بالمفارقات واللمحات الذكية، والأسى على المصائر، وتحتمي بالحنين من شرور الميلودراما. اختارت نشر مجموعتها في الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، بعد تجارب مثمرة في دار الجديد. وكنت أنتظر فرصة لتحية إنعام وتحية رشا الأمير، الروائية والناشرة. كما انتظرتُ أن أرى المخزون العراقي من «القوة الناعمة»، أساطير وأغنيات وألحانا، فوجدت مصر. حضر العراق بمآسيه وبعض من رموزه، وغاب المقام العراقي. غابت سليمة مراد، وحضرت ليلى مراد في القصة الأولى «مرآة كرداسة».
كرداسة قرية مبدعة. كانت المنتجات الباذخة لأبنائها دليلا على الأيدي الذكية، وارثة المواهب الفطرية. حملت الراوية مرآة، أحد نماذج الإبداع الكرداسي، في حضنها قريبا من القلب، في الطائرة، لتستقر في باريس. وليلى مراد، الصوت العابر للأجيال، رافقت جيليْ الأم وابنتها رواية القصة التي تستعيد، بعد عشرين سنة في العاصمة الفرنسية، أغنية «يا سارقني برموش العين»، في جلسات السمر مع صديقتها، وقد انهارت بروج في تفجيرات نيويورك، وسقطت عروش عربية، وقامت ثورات، وظلت الأغنية ومرآة كرداسة.
الأم في قصة «نخلتي» أخذت القطار، من البصرة جنوبا إلى بغداد؛ لتشاهد فيلم «الوردة البيضاء» بطولة محمد عبد الوهاب. انتهى الفيلم فعادت إلى البصرة. أما ابنتها، الراوية، فورثت محبة الأم لرهافة صوت عبد الوهاب، وأضافت إلى ذلك محبة عبد الحليم حافظ، إلا في أغانيه الفصحى التي لا يجاري فيها أستاذة صاحب «جفنه علّم الغزل».
في ذلك الزمان، لم تكن آلات الدعاية قد اخترعت أغنية «القوى الناعمة»، وهكذا نجت أصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وعبد الحليم، وبلغت بصفائها أقصى حدود العالم العربي، بل إن بطلة قصة «نخلتي» اعتادت الاستماع إلى أغنيات عبد الحليم الوطنية «مع شقشقة النهار». لنتخيل امرأة ـ تعيش خارج وطنها ـ تستفتح يومها بأغنية «يا أهلا بالمعارك» لعبد الحليم، أو تضيف إليه أصوات كل من عبد الوهاب ونجاة وشادية وفايدة كامل وفايزة أحمد؛ في أغنية واحدة، ليكتمل الحشد في «صوت الجماهير». أستعير روح الراوية، وأعيد الاستماع إلى هذه الأغاني، وأنتهي من القراءة، وأغمض عيني على شجن يقاوم تراجيديا الطاخ طاخ.