كانوا جميعا هناك…
يجلسون في حانة يُطلق عليها، مجازا، اسم: “وطن”.
تقع الحانة في آخر شارع “التّأريخ”
عند تقاطع زنقة “الدّول العربيّة” وزنقة “الاتّحاد الإفريقي”!
في الحانة التي كانت تتقيّأ الكثير من جثث السّكارى على الشّاطئ الشّماليّ للحياة
وكانت توزّع الهواء على زبائنها بالمجّان؛
كان الفقراء يشربون أيّامهم المعتادة
ولا يهتمّون لمذاق المرارة على أصابعهم..
كانوا، أحيانا، يشربون أفراحا صغيرة يخفونها في صرير الأسرّة
وبين طيّات التأوّهات المكتومة حتّى لا تكتشف الجدران نيّتهم في ارتكاب إثم مُهاجِرٍ مُحتَمَل!!
كانوا يشربون أيّامهم مخلوطة بالشّقاء
ويأكلون، معها، الكثير من خساراتهم
وأطباق جوع تقدّمها الحانة، أحيانا، بالمجّان!
الأدباء و الفنّانون، أيضا، كانوا هناك؛
بعضهم يجلس قرب النّوافذ
أو يتحلّق آخرون حول أحذية مستوردة ليمسحوا عنها شتائم الفقراء
وكلّهم يعلّقون شارات كُتِبَ عليها بالبونط العريض: “مثقّف”.
المثقّفون.. لا يشربون كما الفقراء
فبريستيجهم لا يسمح بذلك
لهذا.. هم يدّعون أنّهم يحتسون!
لا عليك يا صديقي؛
فوحدهم المثقّفون يدركون الفرق الجليّ بين “يشربون” و “يحتسون”!
يا صديقي.. لا تسلني: ماذا يشرب المثقّفون؟
بل سلني: ماذا يحتسي المثقّفون؟
بالأمس، رأيت شاعرا احتسى ستّ نساء وحُزنَين
حتّى كاد أن يسقُط عن ظهر قصيدة جامحة لولا ومضة شعريّة أنقذته!
شاعر آخر كان يحتسي صراخا ركيكا
وحين ثَمِلْ
صار ينادي: تسقط الحانة.. تسقط الحانة
فرماه حرّاس الحانة في صمت ضيّق…
شاعر ثالث لا يبدو أنّه قد زار الحانة من قبل
يجلس وحيدا،
يعدّ أصابعه الكثيرة وكلّما أخطأ العدّ كرّر الأمر من جديد
ويحتسي أغنيات ثوريّة
– هكذا سمّتها نادلة سرّيّة في الفاتورة –
وأسماء رجال و نساء لا أحد سمع بهم،
ربّما،
لأنّهم ليسوا لاعبي كرة قدم و لا راقصات!
كان يجلس وحيدا
ويحلم أن يصير مالكا لحانة “وطن”!
رأيت رسّامين يحتسون الكثير من الأحلام الملوّنة
ثمّ يتقيّؤونها على جدران الحانة
ويضحكون من شغب الأطفال الذين يسكنونهم !
أخبرني شاعر،
لا أثق به،
أنّ عازف الكمان يحتسي الكثير من التّقارير السّرّيّة
ومن الأخبار المكذوبة
لذلك تسمح له إدارة الحانة بالنّوم عاريا في حضن عازف “الكونترباص”، خلف “كونتوار البار” …
في الحانة، غرباء لا يشبهون الآخرين!
غرباء يأتون، فقط، حين تمتلئ الحانة بالأحلام الورديّة
فيشربونها كاملة
ولا يدفعون شيئا
وكلّما تبوّلوها
صفّق لهم الآخرون!
في الحانة، أيضا، أنبياء؛
أنبياء يشربون نبوءاتهم و يبشّرون بخطّ الوصول…
أنبياء يحملون الأرصفة على ظهورهم
ويوزّعون قلوبهم و رؤوسهم على روّاد الحانة
حتّى إذا ما سكروا
ونضجت الثّمار على أغصان ألسنتهم
اتّهمهم الغرباء بممارسة رذيلة: النّور
وصلبوهم على جذوع العتمة…
نعم يا صديقي؛ سأجيبك، حتما؛
ما سؤالك؟
أنا من أيّ صنف؟!!
أنا.. كوب فارغ مشروخ الحافّة
أحدهم ترك داخله حجر نرد؛
حجرنرد تبرّأ منه كلّ المقامرين
ولم يجرؤ النّادل أن يرميه…

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *