ذات سنة من سني الجاهلية، أصابت مضارب بني عبس ضائقة شديدة، وبات الناس في قلق عظيم. فقد أمحلت الأرض، وأجدبت المراعي. ولم يكن لديهم فارس مثل عنترة يقيل عثرتهم. ولا كفء له يخفف مصابهم. لم يكن هناك سوى عروة بن الورد في حي قريب. ذهبت إليه النسوة، وقلن له : يا أبا الصعاليك .. أغثنا. لقد عضنا الجوع، ومسنا الضر، وضاقت بنا الأرض بما رحبت!
حينما سمع هذه الاستغاثة، انتفض عروة. لا ليقدم لهؤلاء النسوة شويهاته، أو عنزاته، أو حتى دجاجاته. فهو لا يملك منهن شروى نقير. لكنه امتشق حسامه، وقفز على صهوة حصانه، ومضى ليغزو الحي المجاور. ويصيب منه مغانم كثيرة، ويسوق أمامه وهو يعود إلى مضارب بني عبس ما صادفه من (الحلال). فيرسم الفرحة على وجوه الأطفال والنساء والشيوخ، غير عابئ بالخطر، أو مكترث للموت. وهو يقول غير هياب ولا خواف (خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة / إن القعود مع العيال قبيح)!
هكذا كانت حال أصحابنا في ذلك العصر.. يجوع الجميع، أو يأكل الجميع. فالاشتراكية التي كانوا يؤمنون بها تعني مشاعية الطعام والمال. وليس أفضل لديهم من رجال أشداء، يغيرون على جيرانهم، ويسلبونهم أعز ما لديهم. ثم يتركونهم في أسوأ حال. كان الأقوياء في ذلك العصر من أعز ما تملك القبيلة على الإطلاق.
في عصر اضمحلال الحضارة، تكرر هذا المشهد كثيراً. ارتدت القبائل البدوية إلى زمن الجاهلية، واستعادت من جديد عادة الغزو. كانت القوافل التي تمر بالجوار عرضة لهجوم القبائل. وإذا لم تتخذ الحيطة، أو تعد العدة، فإن السبيل الوحيد للنجاة هي دفع أتاوة من المال. أما السفن التي تمخر عباب الأنهر الكبرى، فهي عادة ما تكون مسلحة بالمدافع والرشاشات والسيوف الهندوانية. وإلا فإن رجال القبائل لن يترددوا في تسلق حافاتها، والصعود على ظهرها، والاستيلاء على كل شئ جميل فيها. ولا تمر مثل هذه الحوادث في العادة دون ضحايا. لكن الأمر لا يستدعي الوقوف كثيراً، وهو أفضل من القعود مع العيال كما قال عروة!
في عشرينات القرن الماضي زار (عجيل الياور) شيخ مشايخ شمر منطقة المشاهدة شمال بغداد. ودهش لأن أهلها توقفوا عن الغزو، متذرعين بأنه عادة ذميمة يأباها الشرع. أصيب الرجل بالصدمة، فالغزو في نظره يعني الرجولة والفروسية والشهامة! غادر المكان ممتعضاً، وغير رأيه في تلك القبائل، التي كان يتوق، ربما، أن تكون في دائرة نفوذه.
يخطئ من يظن أن هذه (الفعالية) انقرضت، بعد موجة التمدن التي اجتاحت العراق في العقود الأخيرة، وانتشار التعليم بفروعه المختلفة. فالعشائر العربية سرعان ما اعتنقت (الديمقراطية) وأعلنت نفسها قبائل يحكمها (أمير)، بعد أن كان مجرد شيخ . ولم تعد تستطيع أن تمنع نفسها عن الغزو عند اشتداد الخطوب، ونزول المحن. فحينما تتغير الحكومات، أو تسقط الأنظمة، أو تندلع الانتفاضات، أو تقع البلاد تحت الاحتلال.. يسارع أبناؤها لوضع اليد على أي شئ يرونه أمامهم. حتى لو كان ذلك أرضاً متروكة، أو منزلاً فارغاً، أو بناية تحت الإنشاء، أو متحفاً، أو (اتحاد أدباء)! ولا تخلي مكانها إلا بتعويض سخي يستحق المجازفة! ومثلما كانت القبائل تتعرض للجنود الأتراك الفارين من المعركة مع الاحتلال البريطاني في الحرب العالمية الأولى، وتسلبها سلاحها وأحذيتها الثقيلة، فإن (القبائل) الجديدة اقتلعت حتى (كاشي) المنشآت الحكومية عام 2003!
حدثني (صديق) أنه اشترك في إحدى هذه الغزوات. لكنه لم يكن يبتغي كرسياً أو منضدة أو جهازاً أو شيئاً من حطام الدنيا، كل ما كان يريده (مسدساً) أو سلاحاً نارياً يتمنطق به عند اللزوم. أو يطلق منه الرصاص كلما فاز المنتخب الوطني لكرة القدم. فهو ليس بحاجة لمال حرام، أو متاع سرعان ما يتطرق إليه البلى. لقد (غزا) مقراً حزبياً يتكدس فيه السلاح، وهذا هو ما يريده بالضبط. لكنه لم يجد شيئاً. فقد سبقته القبائل بالاستيلاء على هذه الأسلحة، الخفيفة والمتوسطة. وتجاوزتها إلى العربات والمدفعية والدبابات.
لم ينته الغزو بهذه الطريقة البدائية. فالاستيلاء على المال العام، أو ابتزاز المواطنين، أو وضع اليد على الأراضي بدافع نبيل اسمه (التجاوز)، لم يفت أبناء القبائل قطعاً. وكان أن بالغوا في الاستزادة منه بكل ما يمتلكون من فروسية. وللأمانة فإن هذا الغزو هو أحد تجليات العولمة، أو ما بعد الحداثة. وهو قاسم مشترك لكل الأنظمة في هذا العالم، ديمقراطية كانت أو دكتاتورية. ملكية أو جمهورية. شرقية أو غربية! وهكذا فإن علينا أن لا نستغرب إذا ما هب عروة بن الورد لنجدة بني عبس، وأجهز على مضارب قبيلة آمنة أخرى، وقام بتوزيع ما غنمه منها على مستحقيه. فالثروة في نظره هي ملك الجميع، ولا تخص جماعة دون أخرى. هذه هي مشاعية (اللادولة) التي بشر بها ماركس ذات يوم، وباتت تهفو لها قلوب البعض في القرن الواحد والعشرين. وستبقى إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.