قلما كان مظهر الإنسان الفخم دليلا على فخامة أعماقه و قلما كانت الملابس الفاخرة دليلا على الرقي و السمو الداخلي. كلنا نعرف هذا و كلنا لا نشك قيد انملة في أن المظاهر خداعة و أنها لا تعكس أبدا داخل الانسان و لكن و رغم قناعتنا هذه، عندما تتكلم المظاهر يصمت الجميع. عندما يدخل “السيد مجهول” الي اي مكان لابسا بدلة أنيقة و ساعة فاخرة حاملا حقيبته الجلدية المطبوع عليها اسم أعرق دور الأزياء الايطالية تفوح منه رائحة باريزية نفاثة، ينظر إليه الجميع باحترام و كأنهم متأكدون تماما أنه “حضرة المحترم”.. لا أحد يشك للحظة أن “السيد مجهول” هذا هو من خريجي الجامعات و تربى على يد امراة راقية تفهم جيدا قواعد الذوق و الاتيكيت وأنه من علية القوم و قد تواضع و نزل من برجه العاجي ليحتك بجملة الناس العادية، و يرى الجميع أن هذا كرم لا متناهي و تواضع يستحق عليه “السيد مجهول” الشكر و الاثناء. فتجد الجميع يتودد له و ان وقعت سرقة في المكان فالكل مستهدف بالاتهام الا “السيد مجهول” صاحب المظهر البراق مع انه من الوارد جدا ان يكون هو من قام بالسرقة.
لا أحد يعلم حقا أصل و فصل هذا السيد، ولكنه يبرؤونه من كل نقيصة فقط عن طريق مظهره، و كم من سارق و محتال و كاذب تخفى وراء مظهره الفاخر المزيف .
العديد منا يقع فريسة لمصيدة المظاهر الخداعة و برغم علمه بأن المظهر لا يصنع لا الاحترام و لا الرقي و لا الأخلاق و لكن رغم ذلك يحترمون من يجدون مظهره براقا و يتناسون أن ليس كل ما يلمع ذهب، نحن شعوب تحب المظاهر و ترى بأنه لا احتراما ولا مكانة في المجتمع لمن لا يلمعون من الخارج حتى و إن تظاهروا بالترف و الثراء و هم غارقون في القروض و الديون و يجدون انه لابأس بذلك ما دام سيجعلهم يصنفون من بين صفوة القوم و نخبة المجتمع ، لا أنكر ابدا أهمية المظهر اللائق و أشدد على كلمة اللائق و ليس الفاخر، فلا أحد يحترم شخصا يدخل إلى مكان ما بملابس ليست نظيفة أو لا تليق بالمكان، كلنا نحب الأناقة و انا أول المحبين لها و الحريصين عليها، لكني لا أقيس أبدا الناس بما يلبسون من ماركات أو ما يركبون من سيارات فارهة أو ما يسكنون من منازل و فيلات فخمة .. أتذكر عندما كنت طفلة جاء إلى حينا ساكن جديد، كان رجلا في الخمسين من عمره يركب سيارة عادية إن لم أقل سيارة قديمة و تشكو من العديد من الأعطال، كان يلبس ملابس عادية نظيفة مكوية مرتبة و لكن لا تدل أبدا لا على الفخامة و لا على رفعة المقام .. ولكن، ما كان يعجبني فيه أنه دائم الابتسام و محافظا على التحية و السلام لكل من يعترض طريقه و أنا أولهم كنت طفلة في الثامنة من عمري و كان يبادلني التحية و الكلام حتى شعرت بأننا أصدقاء كان حالة من الانسجام مع نفسه و الآخرين و عندما سألت أبي يوما عن مهنته قال لي هو دكتور و كاتب و مؤلف و باحث.. سألت أبي إن كان يستطيع أن يشتري سيارة أخرى بدلا من سيارته القديمة مادام لديه النقود و لماذا يسكن البيت الصغير مع أن الحي كان يعج بالفيلات الكبيرة؟ فقال لي والدي:” ربما قد خيروه بين أن يملك عقلا كبيرا و منزلا صغيرا أو عقلا صغيرا و منزلا كبيرا فاختار أن يكون من ذوي العقول الكبيرة و بين فخامة الأخلاق أو فخامة السيارة فاختار أن يكون فخما في أخلاقه .. المال يا ابنتي جزء من الرزق و ليس الرزق كله .. تخيلي معي أن الرزق دائرة مقسمة إلى أجزاء، المال و الأخلاق و الصحة و العلم و العائلة و راحة البال و حب الٱخرين و احترامهم فلو أعطينا كل الدائرة إلى المال فقط فسنكون أثرياء في المال و لكننا فقراء في العلم و الأخلاق و الصحة و غيرها و أنت أيضا يا ابنتي يجب أن تقسمي دائرتك بحكمة و لا تجعلي جانبا واحدا يأخذ كل الدائرة، لا تجعلي حب جانب واحد يطغى على كل الدائرة ستكونين وقتها غنية في شيء واحد و فقيرة في بقية الجوانب.”
و منذ ذلك اليوم و أنا أرى الناس مقسمين في تلك الدائرة، و لا يعجبني أبدا من جعلوا الدائرة كلها للمظاهر الخداعة.. لا ننكر كلنا أهمية المال و انه وسيلة من أقوى الوسائل لقضاء حاجاتنا و بلوغ ما نريد و لكن يبقى دائماً عاجزا وحده على صناعة إنسان متوازن غني المظهر و الجوهر. فقط أصحاب العقول الخاوية ممن نراهم على وسائل التواصل الاجتماعي يتباهون بما يملكون من حلي و فيلات و ملابس فاخرة و كل انجازاتهم في الحياة سفر و جولات بين المطاعم و المنتجعات .. هؤلاء الذين يصرفون نقودهم بلا تفكير على أشياء لا يحبونها فقط من اجل جعل أناس يكرهونهم يغتاضون كما من الغباء أن نتظاهر بالغنى و الترف و السعادة أمام الٱخرين و نحن غارقون مع أنفسنا في القلة و الذلة و الحاجة و التعاسة.
ليت مجتمعنا يزيح عن عينيه لثام المظاهر ليرى كل منا من يحيطون به بعين الحقيقة العادلة و بفخامة الجوهر و ما يحويه وليس بزيف المظهر و ما يخفيه.