قبل أيام كنت عند طبيب الإنسان. وجملة بقايا الطعام، يجري تداولها كثيراً في مثل هذه العيادات بالعلاقة مع التكلسات والالتهابات وغيرها من أمراض الفم والأسنان، ناهيك عن ما يمكن أن تولده من روائح غير طيبة في الفم.
منذ أيام طفولتنا لا ينفك آباؤنا ومعلمونا كذلك من حثنا على تنظيف أسناننا من بقايا الطعام لا سيما قبل الذهاب الى النوم.
بيد أن لبقايا الطعام حكاية كبيرة أخرى.
نتحدث عن ونعيش حياة البشرية بين شمال وجنوب، شمال متخم اعتاد أبناؤه الأكل حد التخمة ورمي بقايا طعام بالأطنان، وجنوب فقير يتضور جوعاً يبحث في الزبالة عما يقتاد عليه.
والأدهى من ذلك عندما يقترن التبذير والاسراف ذلك بعادات وقيم اجتماعية لا يتمكن البعض الكثير من الافلات منها، رغم تبعياتها وتداعياتها.
أيام الحصار ضد العراق في تسعينات القرن الماضي كان لي لقاء مع بعض أفراد أسرتي في الأردن، وجدتهم يغبطون قططاً على بدانة أجسادهم بالمقارنة مع قططنا الهزيلة في العراق بسبب شحة ما راحوا يبحثون عنه في الزبالة والقمامة هناك!
في كثير من الدول والشعوب ترمى يومياً ملايين الأطنان من بقايا الطعام بوصفها زبالة أو قمامة، في ذات الحين التي لا يجد فيه ملايين الملايين ما يسدون بها رمق عيشهم. انها صورة سريالية لواقع يعيشه البشر، قد يمكن له من التعامل معها بايجابية أكثر لكننا لا يجب أن نحلم بغيابها كلياً، لأسباب عملية.
هذه الظاهرة كان قد جرى تناولها بأشكال كثيرة، تربوية واجتماعية وحضارية. لقد حذرنا الكبار من التبذير والإسراف. فكم كان منظراً جميلاً أن ترى طفلاً يرفع قطعة خبز من على الأرض، ينظفها ويقبلها ويضعها على رأسه شاكراً لله نعمه، ثم يتركها لمن هو بحاجة اليها من بشر أو حيوان.
ومع انتشار مطاعم البوفيهات المفتوحة ترى ظاهرة الإسراف في التبذير ورمي الطعام على مصراعيها. حدثني مدراء أحد المطاعم في مدينة ما يروي انه يرمى طناً تقريباً من اللحوم في حاويات القمامة يومياً.
ورغم ما بدأت تأخذ به بعض ادارات المدن والمؤسسات من معالجات اعادة التدوير، لكن الهدر والتبذير مازال كبيراً، ليس فقط على مستوى المطاعم العامة، ولكن على مستوى مكبات بقايا الطعام لدى الأسر والعوائل.
كم هو مؤلم إنسانياً، أو هكذا يجب أن يكون، أن ترى من ينتظرك ترمي بقايا الطعام قمامة ليركض اليها؟!
انها تربية، وانه سلوك اقتصادي، وهي مسألة حضارية