في التسجيلات التي تحدّث فيها الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك عن أوضاع مصر وبعض محطات حكمه ، بعد أن خرج من السلطة، معلومات مهمة عن أفق التفكير الإسرائيلي في مسار الصراع، لاسيما في موضوع غزة، الذي يعد تحت الرعاية المصرية تاريخياً. يقول مبارك انَّ رئيس الحكومة الإسرائيلية نتانياهو فاتحه قبل ان يغادر منصبه بستة أشهر، ومن باب جس النبض، عن إمكانية ان يتفق معه على انهاء وجود الفلسطينيين في هذا القطاع من خلال ترحليهم الى أرض مصرية، فردَّ عليه مبارك بوضوح بأنّ عليه أن ينسى هذا الامر، لأنه لن يقوم هو شخصياً أو الذي « اثخن” منه على تنفيذ هذه الأفكار، وسأل مبارك محدثه نتانياهو: هل تريدنا ان نعود نتحارب معكم من جديد؟
ويبدو انّ نتانياهو الذي غادر السلطة ثمّ عاد اليها بعد سنوات، لم ينس هذه القضية التي لم يتمكن من تحقيقها في فترة مبارك، وكذلك في الفترة التي تلتها اذ لا يمضي شهر إلا وعادت التسريبات المصرية الى الاعلام تذكّر بأنّّ هناك مخططات لإعادة توطين سكان غزة في سيناء، وهو أمر ترفضه مصر رفضا قاطعا بحسب كل المعطيات التي اعلنت عنها.
لكن كل التوجهات والسياسات العامة وحتى الثوابت، تتعرض للاهتزاز حين تحدث المفاجآت، لاسيما تلك التي تفرضها الحروب، ويصبح لابدّ من التعامل معها كواقع والتحول الى موقف التخفيف من اثارها بعد أن وقعت فعلاً.
هناك انذار إسرائيلي لسكان غزة بالرحيل، وهي دعوة تقتصر على شمال القطاع حتى اليوم ولكن لا يوجد ضمان من احد بعدم امتدادها الى كل القطاع ، ولكن الى اين الرحيل ولا يوجد منفذ سوى معبر رفح الذي يدرك الفلسطينيون انّ الخروج منه لا يضمن لأحد إمكانية العودة الى القطاع مرة أخرى ، كما انّ مصر تواجه ضغوطاً امام الحالات الإنسانية التي قد تخرج عن السيطرة اذا زادت حدة وحشية الجيش الإسرائيلي في قصف المدنيين على هذه الطريقة المبرمجة لمسح مناطق سكنية كاملة وتوفير خط حماية إسرائيلي جديد بما يشبه غلافاً داخلياً آخر من غزة يضاف لغلافها الخارجي السابق المكتظ بالمستوطنات.
العرب في أسوأ حالاتهم من الضعف اليوم، وهم منقسمون بين دول تريد مواجهة المشروع الإسرائيلي الجديد لكنها مكبلة بالديون والاعانات التي تستجديها من الراعي الأكبر لإسرائيل مع اختلالات سياسية بنيوية داخلية غير معالجة، وبين دول اخرى لا تزال حلاوة التطبيع على لسانها ولا تريد التفريط بما وصلت اليه لمجرد “قضية فلسطينية” ليست لها نهاية منظورة. وهناك قسم اخر من العرب يمارس رياضة إطلاق الأصوات المنعشة للحناجر في الساحات والشوارع من إيران الى العراق وسوريا ولبنان واليمن.
برغم ذلك الاختلاط، والضعف، هناك تضحيات عظيمة يبدو انه لا يوجد مَن يتقن بذلها على الكوكب سوى الشعب الفلسطيني في غزة أو الضفة، وينافسهم فيها فقط العراقيون والسوريون.
في كل الأحوال، ما يهدّد به نتانياهو من تغيير لخارطة الشرق الأوسط، سيكون له أثمان كبيرة وخطيرة تدفعها تل ابيب أيضاً ، فضلاً عن نتانياهو شخصياً، ولعلّه بسبب شدة الصدمة والتبعية العمياء لتيار التطرف الديني لا يفقه ما يجري حوله وما يتفوه به .