عن معنى الخوف، وعن الوجع الصامت، وعن الهادئين في صخب الشوارع، كل هؤلاء المندمجين في محاربة الخوف، الذين وقودهم التصدي واللاخضوع، وعلى مسلات الحضارة القديمة، في عمق تاريخٍ مشرف لبلد مبهم الملامح، يحاول منسيٌّ أكبر همومه أن يجلس باسترخاء في بيت لا يهدد ساكنه بالسقوط على رأسه، يحاول هذا المنسي أن يعيش وينسى، أن يكبُر أبناؤه على صوت موسيقى السلام وألعاب المتنزه العمومي، معتقدا جزمًا أن الحلم يمكن أن يصبح هدفًا لو تحرى الصدق في معناه، ولكن، كيف للمعنى أن يوجد بجملة غير واضحة؟ مثله!

 

على الرغم من تناحر الأضداد في خلجه ووسوسة شياطين الباعة الجوالين للتفاهة في باحة بيته، لكنه قرر أن يلاطف الخوف ويمازح المعنى ويشاكس التردد.

 

حمل ما تبقى من متاع الذات وشيئا من نزوات وهرطقات المعرفة، أي ما تعلمه من المكاتب الكئيبة والمظلمة، وخرج حاجًّا للمدينة المتحضرة، على العكس من بطل الخيميائي، وبالضد من طريقة باولو كويلو بالكتابة، سرد حكايته بقدمين نشطين، وظل يقيس الشوارع ويحصي الفروع والدرابين، لا كعادته المنظمة، بل بعقلية جديدة، تعتمد على خطة واحدة: لا نظام، لا قواعد، لا خطة.

 

لم يعتد أن يكون واضحا للرؤية كما كان، فقد كان يسير بالحافة وخلف الظلال المتلاحقة للماشين، حتى لا يكاد بائع متشرد أن يلاحظه، إذ قرر منذ قراءة الكتاب الأول في الفلسفة أن يمسي هامشا في الحياة، وأن يخفف من وزن وجوده في عالم مخيف، لأنه كان يخشى كل شيء، حتى نفسه.

 

حين قرر أن يغير تفكيره، وأن يحلم من دون ضوابط، أو يطير كما لو كان طائرا بريا، وجد أن مشيته تغيرت أيضا، ووجه قد تغير لونه إلى بياض ناصع، ولاحظ أن يديه تتحركان بانسيابية عالية واتساقا أكبر، فلم يخفِ فرحته عن العالم، وضحك بهستيرية شرسة، ثم اعتلى صوت ضحكته حتى انتبه له المارّون والجالسون، ولاحظ هو ذلك، لكنه، ولأول مرة في حياته، لم يأبه لأي أحد، بل استأنف مشيته كما يحلو لقدميه أن تمشيان.

 

ولأنه لم يخطط لنهاية، ولم يعرف تجاهه الدقيق، ظل يمشي منتظرا أن يوقفه حدثٌ أكبر من اندفاعه، أو عارض قدريٌّ، إذ تحرر من قيود وضوابط كل شيء متخذا من الفوضى طريقا لرحلته المفاجئة وحياته الجديدة، على أمل أن يصل إلى ما تبقى من ذاته ويعيد كيانه في عالمٍ يأبى أن يصدقه أو يحتضنه كيتيم في ملجأ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *