ما قرأت عبارة على مواقع التواصل الاجتماعي تصف ماض قريب بأنه زمن جميل ، الا واستحضرت ذاكرتي كيف سرقت العسكرية شبابنا ، وحرمتنا من التمتع بأوقاتنا وأسرنا وأطفالنا ، وكيف كنا نقضي اجازة مدتها سبعة أيام مقابل شهر نقضيه في عزلة عن الحياة ، الا من أشخاص محبطين ، ليس من حلم لهم سوى النزول في اجازة ، كم هي بسيطة أحلام الجنود ، قد لا تصدقون ان قلت لكم ان من بين أحلام شبابي الاستلقاء في بيتي وليست في بالي فكرة الالتحاق ، بينما كانت جميع الظروف تجعل من هذا الحلم مستحيلا ، وربما تستغربون ان أخبرتكم بأن فرحتي بالتسريح تفوق فرحتي بجميع ما حققته في حياتي ، فرحة كانت بعرض السماء ومازالت .
وما تلمست حماسا في ( بوست ) يجّمل كاتبه زمنا مضى حتى استذكرت سنوات الحصار التي أجبرتنا على حساب كم ملعقة سكر نضع في ( استكان ) الشاي لكي يصبح مقبولا وليس حلوا ، يومها كان راتب الموظف ثلاثة آلاف دينار وسعر الكيلو غرام من السكر الف ونصف ، وكيف كان الاستاذ والطالب يقضيان السنة الدراسية بقميص وبنطلون واحد ، وقد عملت يد الرقّاع بأحذيتهما ما عملت ، ولن أتحث عن الآباء الذين باعوا أبواب ونوافذ بيوتهم واستبدلوها ببطانيات مهترئة او أكياس الطحين الفارغة ليوفروا قوت عيالهم ، او تلك العوائل التي لم تذق طعم اللحم على مدى سنوات ، او ذاك الطفل الذي يتساءل عن معنى الموز والتفاح المرسومة صورهما في كتاب الرياضيات الذي يدرسونه ، ووووو .
اما الذين يتباهون بحاضرنا ، ويظنونه الأجمل ، ويفخرون بأنهم فتحوا نوافذ الحريات على مصاريعها لنقول ما نشاء ، وخلعوا أبواب السماء لدخول الأنترنيت والفضائيات ، وحررونا من قيود الاستبداد ، ليصير بمقدور أي كان تبوء مكان الصدارة بين صفوفنا ، عليهم أن يتذكروا انهم فتحوا أبواب الجحيم ايضا ، لتفرض الطائفية حضورها علينا فأكلت من شبابنا ما أكلت ، ورسخّت فكرة مقيتة ما كنا نتوقع يوما أن تفترسنا ، وهم أنفسهم من أوجد المحاصصة التي كبلت البلاد لتراوح في مكانها منذ عقدين ، حتى صار الخطو الى الأمام عصيا ، وبتنا نوزع أبسط دوائرنا على أساس هذا المذهب او ذاك ، وان بعضهم نخر الوطن بفساده ونزواته وضعف انتمائه ، لتجول وتصول فيه ما لم نتوقعه من الظواهر ، وفي زمنهم خرب التعليم وانهارت الصحة وتراجع الفن واتسع الفقر وزادت البطالة ، وغدت البلاد يتحكم بها الغرباء أكثر مما يحكمها أهلها ، ما أفقدها مكانتها ووزنها ، ووووو .
لا أظن مر بالعراقيين زمن جميل ، وعاشوا فيه استقرارا ورخاء من دون قلق او خوف على أنفسهم والوطن ، فالاسترخاء كان أبعد الأشياء عنهم ، ورغد العيش كان من بين أحلامهم المستعصية ، فكيف للبعض أن يتحدث عن زمن جميل بالمطلق ماضيا كان ام حاضرا .
بعضنا يطلق أحكاما مستقاة من تجربة شخصية لا يمكن بحال تعميمها على جميع الناس ، الأزمنة الجميلة حالة نسبية تختلف من شخص لآخر ، أزمنتنا أحدها أسوأ من الآخر ، وعندما نصف ماض معين بالجميل ، فذاك يعني ان الحاضر أسوأ منه ، والا لما كان الماضي جميلا ، الأزمنة متذبذبة في جميلها وقبيحها ، لكننا ذاتيون حد النخاع في أحكامنا ، ما أن نكره زمنا حتى نطلق على من سبقه بالجميل ، وان أحببنا آخر تغاضينا عن سلبياته وأعلينا من شأن محاسنه .
من الحقائق التي نجهلها او نتغاضى عنها لأسباب سياسية وشخصية ، افتقادنا للتقييم الموضوعي لتجاربنا ، الأحقاد والضغائن هي من تملي علينا أحكامنا ، فعندما يتغير نظام سياسي في بلادنا ينسف اللاحقون ما حققه الأولون ، والأولون يشوهون منجزات اللاحقين ، دون أن نتمثل تجاربنا بموضوعية لنستفيد من صحيحها وتأشير أخطائها . وصدق الله تعالى بقوله ( كُلما دخلت أمة لعنت أختها ) . وقد أوشكت أعمارنا على الانتهاء وما زالت أبصارنا ترنو بانتظار الزمن الجميل .