أفزعته الصورة التي يراها أمام عينيه , وشعر بالحزن على تلك الأيام الخوالي التي مضت كأنها حلم , أعاد النظر في الصورة التي جمعته مع رفاق طفولته , ترى أين هم الآن بعد خمسين عاما , أهم أحياء أم أموات ؟
لقد شاطروه زمنا من حياته ليس قصيرا حيث جمعهم الزقاق بلهوه وعبثه ومرحه , الزقاق بتاريخه الحافل بالمسرات والأحزان , غير أن الذي أثار فزعه أنه حتى الزقاق اندثر وذهبت معالمه , وهو في مجلسه هذا يذكرهم جميعا واحدا واحدا , أحمد وزكي وخليل وفاضل وماجد وغيرهم .
لقد كانت أحلى سني حياته تلك السنوات التي صحبهم بها سواء في الزقاق أو في المدرسة ثم تفرقت بهم السبل بعد ذلك , فمنهم من نجح ومنهم من أخفق , غير أن الذي حز في نفسه أنه غادر المدينة في أول شبابه وحالما استلم وظيفته فانقطعت تلك الرابطة الحميمة التي تربطه بهم .
هو في هذه الساعة كأنما يراهم رأي العين ليهزه شوق غريب آسر يلعب بأوتار قلبه , كم خاصمهم في لحظة غضب بريء وكم عانقهم في لحظة طمأنينة , يتخاصمون ويتعانقون عشرات المرات في اليوم الواحد , يا لها من طفولة لذيذة .
فلما كبروا تشتتوا , فعجبا للزمن كيف يفرق الأحبة , عجبا له كيف يمد جسور الغربة بين أبناء الزقاق الواحد !
ترى كيف ملامحهم اليوم ؟ أي تغيير طرأ عليهم ؟هل ذهبت نضارة الطفولة عنهم كما ذهبت عنه؟ أتراه يعرفهم لو التقى بهم ؟ وكيف يعرفهم وقد أخذتهم السنون في رحلتها العجيبة الى أحضان الشيخوخة ؟
ان أعباء الحياة دمرت فيهم أغصانهم الطرية وولدت فيهم أمراضا مستعصية , ويخيل اليه أنهم فقدوا القدرة على المقاومة فاستسلموا لقدرهم الذي لا مفر منه , فغلبه رثاء على مصيرهم وكأنما يستشف منه رائحة الموت ليفزع من جديد على النهاية الموحشة التي تنتظرهم .
أحس بقشعريرة تسري في بدنه فازداد حنينه الى رؤيتهم , وتمنى من أعماقه لو يجود الزمن عليه بالقاء نظرة واحدة على أحدهم , اذن لأزاح عن كاهله ثقلا يجثم على صدره .
كان لا يزال يتأمل في الصورة حينما دخل عليه أبناؤه الثلاثة , الأبناء الذين بلغوا مبلغ الرجال فهالهم منظر أبيهم فتساءلوا بصوت واحد : هل أنت بخير ؟
فأحابهم وهو يطمئنهم : لا بأس سأكون بخير .