يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يتنبأ‭ ‬بالاتجاه‭ ‬الفكري‭ ‬لأي‭ ‬قناة‭ ‬فضائية‭ ‬من‭ ‬شريطها‭ ‬الأخباري،‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬الشاشة‭. ‬وبإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬ملتزمة‭ ‬بقضايا‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬منقادة‭ ‬لسواه‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬صياغة‭ ‬الخبر‭ ‬تنبئ‭ ‬عن‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬معينة‭ ‬لا‭ ‬تخطئها‭ ‬العين‭. ‬فهي‭ ‬تسبغ‭ ‬ألقاباً‭ ‬فخمة‭ ‬على‭ ‬داعميها،‭ ‬وتسهب‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬أنشطتهم‭ ‬اليومية‭. ‬لكنها‭ ‬تبخل‭ ‬على‭ ‬معارضيها‭ ‬بذلك‭. ‬ولا‭ ‬تذكر‭ ‬حكومتهم‭ ‬إلا‭ ‬باسم‭ ‬النظام‭! ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الحيادية‭ ‬عامل‭ ‬مهم‭ ‬للاطمئنان‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬الخبر،‭ ‬والثقة‭ ‬بناقليه‭.‬

‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬التباين،‭ ‬وربما‭ ‬التحريف،‭ ‬يبقى‭ ‬الخبر‭ ‬ذا‭ ‬قيمة‭ ‬تاريخية‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬تدوينة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬أو‭ ‬مختصرة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تافهة،‭ ‬ستصبح‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬جزءً‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعب،‭ ‬وإرثاً‭ ‬من‭ ‬موروثات‭ ‬الأمة‭. ‬وربما‭ ‬يقابل‭ ‬هذا‭ ‬النتاج‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬الازدراء‭ ‬في‭ ‬ساعته،‭ ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬أهمية‭.  ‬فما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬معلومات‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬اجتماعي‭ ‬أو‭ ‬اقتصادي‭ ‬حدث‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬لكن‭ ‬تأثيراته‭ ‬استمرت‭ ‬لوقت‭ ‬طويل‭.‬

‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬مصادر‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدب،‭ ‬رغم‭ ‬غلبة‭ ‬عنصر‭ ‬الخيال‭ ‬عليه‭. ‬وقيل‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬موضوعات‭ ‬مثل‭ ‬الدين‭ ‬والأدب،‭ ‬والتراث‭ ‬الشعبي‭ ‬والتعاملات‭ ‬اليومية،‭ ‬يحوي‭ ‬قدراً‭ ‬عالياً‭ ‬من‭ ‬الغموض‭. ‬بعكس‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يتصف‭ ‬عادة‭ ‬بالوضوح‭. ‬فالحقائق‭ ‬التي‭ ‬تخص‭ ‬سير‭ ‬الحوادث‭ ‬الكبرى‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬التأويل،‭ ‬لأنها‭ ‬تتناول‭ ‬موضوعات‭ ‬محددة،‭ ‬ذات‭ ‬صلة‭ ‬بمؤسسات‭ ‬عامة‭ ‬مثل‭ ‬الجيش‭ ‬والحكومة،‭ ‬والإعلام،‭ ‬والأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬وغيرها‭.‬

‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬دراسة‭ ‬أي‭ ‬حقبة‭ ‬تاريخية‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬تجاهل‭ ‬موضوعة‭ ‬الثقافة،‭ ‬أو‭ ‬إهمال‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭. ‬ومن‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬قصص‭ (‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭) ‬التي‭ ‬دونت‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬أعقب‭ ‬انهيار‭ ‬العباسيين‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭. ‬وقد‭ ‬اتسم‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬فيه‭ ‬المغول‭ ‬والتركمان‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وفارس،‭ ‬والمماليك‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والشام،‭ ‬بغلبة‭ ‬الفتن‭ ‬الداخلية،‭ ‬والانقسامات‭ ‬السياسة،‭ ‬والانحطاط‭ ‬الحضاري‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬عصرها‭ ‬الذي‭ ‬دونت‭ ‬فيه،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬زاخرة‭ ‬بالمعلومات‭ ‬عن‭ ‬أساليب‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬فيه‭. ‬وفي‭ ‬الغالب‭ ‬كانت‭ ‬تستهدف‭ ‬التذكير‭ ‬بالأمجاد‭ ‬السالفة‭ ‬التي‭ ‬خسرتها‭ ‬الأمة‭ ‬بسبب‭ ‬خضوعها‭ ‬لحكم‭ ‬دخيل‭. ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات‭ ‬سبب‭ ‬عناية‭ ‬الغربيين‭ ‬بها،‭ ‬وحرصهم‭ ‬على‭ ‬ترجمتها،‭ ‬والاستفادة‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬نتاجاتهم‭ ‬الثقافية‭. ‬وقد‭ ‬شهد‭ ‬العصر‭ ‬ذاته‭ ‬مدونات‭ ‬أخرى‭ ‬لنفس‭ ‬الغرض،‭ ‬مثل‭ ‬تغريبة‭ ‬بني‭ ‬هلال‭ ‬من‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬أفريقيا،‭ ‬وقصة‭ ‬أبي‭ ‬زيد‭ ‬الهلالي‭ ‬والزناتي‭ ‬خليفة‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬البطولة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تراجعت‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭.‬

‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬نستهين‭ ‬بأي‭ ‬خبر‭ ‬عن‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التفاهة،‭ ‬أو‭ ‬التحريف‭. ‬فمع‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬لنا‭ ‬شيئاً‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مصدر‭ ‬غني‭ ‬للتاريخ‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬قادم،‭ ‬أو‭ ‬مستقبل‭ ‬بعيد‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيعول‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬يومئذ‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬حياتنا‭ ‬نحن،‭ ‬وما‭ ‬قدمناه‭ ‬من‭ ‬إضافات،‭ ‬أو‭ ‬تسببنا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬إخفاقات،‭ ‬أو‭ ‬عجزنا‭ ‬عن‭ ‬تحقيقه‭ ‬من‭ ‬أهداف‭.‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *