يسألونك عن الندم؟.
إنه احساس بالقدرة على تجنّب ممنوع بعد فوات الأوان.
وفي مذكرات الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل يقول: ندمت على أشياء كثيرة في حياتي. لكنني لم أندم أنني أمضيت سبعين سنة أدخن الغليون والسيجار باستثناء فترة النوم فأنا أدين بحياتي للدخان!.
وقلّما صادفت أديباً من الأدباء لا يُدخّن.. ومرة قال لي الأديب عبد الحميد العلوجي إنه كان يستيقظ مع صياح الديك، ليبدأ يومه بالتدخين قبل كلّ شيء، حتى غدت صحته تماثل خراب البصرة بعد عدوان الزنج!.
والرصافي اشتغل بائع سجائر غازي في الأعظمية. وكان ينصح المدخّن أن يشتري هذا النوع من الدخان، ويغريه ببيتين من الشعر قائلاً:
دخّنْ سجـارةَ غازي
في وقفـةٍ واجتيــاز ِ
وجازِ نصحي بشكرٍ
إن كنتَ ممّن يُجازي
والشاعر حافظ جميل كان يشعل سيكارة واحدة عند النهوض من الفراش. ثم يشعل واحدة من الأخرى توفيراً للكبريت!.
والجواهري كان يدخن جميع أنواع التبوغ المحلية والإفرنجية. يُطفئ سيكارة من هذه العلبة، ليشعل ثانية من العلبة الأخرى!.
وكان أستاذنا مدني صالح يدخن سبعين سيكارة في اليوم الواحد وأحيانا تصل إلى الثمانين ولا يستعمل عود الكبريت إلا نادراً. وقد ترك التدخين بعد نصف قرن حتى جعل من يوم إقلاعه عن التدخين يوماً وطنياً يحتفل به في كل عام. ثم انشغل عن التدخين بتقشير البرتقال، وبالتمشِّي، وبالصفنات.
وكان لنا زميل في جريدة العراق سالم العزاوي إذا انتفض غضباً على ما يفعله قلم رئيس التحرير صلاح الدين سعيد بمقالات المحررين أطفأنا غضبه بسيكارة من نوع سومر ليهدأ، فيتحول غضبه إلى دخان في الهواء!.
وسمعنا الأطباء ينصحون أن السيكارة تنقص العمر، وأنها جسد مسجّى في كفن من دخان أبيض، وأنها ضارة بالصحة ومع ذلك نجد أعداد المدخنين لم ينقص.. وقرأنا عن رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، أنه كان يُدخّن بحرارة ولهفة في العام الحادي والتسعين من العمر، ومات والسيجار في فمه!.
وعندما ازدهرت أيّام المزبّن في بيوت الفقراء، كان المعتقلون في السجون يستعملون الأوراق الناعمة الصغيرة، يلفّون بها سجائرهم من “دفتر الرشيد”، و”دفتر البافرة”، فيكتبون عليها رسائل شوق إلى أهليهم وحبيباتهم!.
ومرة أراد الشاعر السوري عمر أبو ريشة أن يغازل الشاعرة الرقيقة الأنيقة لميعة عبّاس عمارة في مهرجان للشعر في لبنان، فسألها:
تدخّنين؟ لا.. أتشربين لا..أترقصين؟ لا..مَا أنت جمع لا؟!.
أنا التي تراني.. كل خمول الشرق في أرداني. يا سيدي الخبير بالنسوانِ!.
والعشاق والمهمومون يكثرون التدخين، ويعتقدون أن في التدخين بساط الريح، الذي ينقلهم إلى دنيا من السعادة وراحة البال.. ثم إذا بهم يكتشفون أن كلّ ما تبقّى من عشقهم روائح دخان عالقة في القميص، والكنزة، والمعطف، وفناجين القهوة، ومكاتيب الغرام، والأوراق القديمة، وسعال وزكام، وأعقاب سجائر طويلة وقصيرة عليها آثار مصبوغة من أحمر الشفاه، تفضح بقايا قبلات من ذلك الثغر الجميل!.
يكتشفون بعد حين، أنهم كانوا يعلكون كلاماً في الهواء، ويعرفون بعد فوات العمر، كما قال نزار قباني: أنهم كانوا يطاردون خيط دخان