بعد أن منعني ظرف خاص من زيارة بغداد لسنتين،هأنذا أطلّ عليها من نافذة الطائرة لاراها كما هي في خيالي، عاصمة الدنيا وحاضرتها ،الفاتنة التي شَعرَها دجلة،وعيناها الكرخ والرصافة، وأنفها الأعظمية،وفمها الكاظمية، روحها التاريخ ،وعطرها اهلها وطيبتهم،قبلة العلماء،وملهمة الشعراء،ومحبوبة الادباء، حاضرة الفلسفة والجدل،واجتهاد الدين وعرفان والغزل.بغداد التي جمعت كل نقيضٍ بنقيضه، فطربت لأبي نؤاس وتصوفت مع الحلاج وتعقلنت مع المأمون وتزمتت مع أبن حنبل. تبغدد أهلها،وتبختر نهرُها،وتسيّد فنها،وتعملق ادبها وجَزَلَ شِعرها.وما أن هبطت الطائرة في مطارها حتى بدأ (الزوم أن) يفعل فعله في عيني وقلبي،ويطير خمرة العشق من رأسي وعقلي.ويريني ببصري ما لا يراه قلبي،ولا يقبله عقلي.فهاهو مطارها المتهالك يستقبلني دون رحمة،ويفيقني دون سكرة. بوابة الوصول تعطلت فمكثنا ربع ساعة في الطائرة ننتظر اصلاحه.لا سلالم كهربائية تعيننا في النزول مع حقائبنا،ولا قاعة مريحة لاستقبال القادمين بخاصة عندما تنزل اكثر من طائرة في ذات الوقت ويحصل التكدس امام منافذ ضباط الجوازات.فرحتُ كثيراً حين دَلَفتُ للسيارة،أخيراً، ورأيت السائق يضع حزام الأمان.(هناك كاميرات تراقبنا)،هكذا اجابني السائق حينما تعجبت من وضعه لحزام الأمان وسألته عن سر إلتزامه. نعم فالتكنولوجيا يمكنها ان تحل كثير من مشاكلنا وتغير كثير من عاداتنا.
لم تدم رحلتي لبغداد سوى أيام،وبالتأكيد فأنها لا تكفي للحكم على مدى التغيير الحاصل فيها. ناهيك عن ان أعين العشاق لا ترى سوى جمال المعشوق، وبهاء الحبيب(وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلة……).مع ذلك فقد رصدتُ في رحلتي بعض الملاحظات الخاطفة:
1.على الرغم من ان شوارع بغداد من بين أعرض الشوارع في كل مدن العالم التي زرتها مما يمنحها ميزة جمالية ووظيفية رائعة ،لكنها تعاني من عدم(التأثيث) وكثرة الأوساخ والأهمال. شوارع بغداد،بخاصة الرئيسة منها كفاتنةٍ تُركت بلا تنظيفٍ ولا مكياج. وكعروسٍ بلا ثوب زفاف.
2.الفوضى المرورية مازالت تضرب بأطنابها في بغداد.معظم الاشارات المرورية لا تعمل،بعكس التكاتك التي تراها تعمل في كل التقاطعات وفق قانون(حارة كل من ايدو الو)!! ورجال المرور تحت الشمس الحارقة،والفوضى الخارقة،والأجواء الخانقة، دون مظلات او أي حماية!ومابين مواكب المسؤولين وسيارات التاهو السوداء،وتوقف الاشارات وعطل الكهرباء،وتجاوزات السابلة والتكاتك وجحيم الاجواء، فان شرطة المرور كمن ينفخ في قربةٍ جوفاء،او يطلب من السرابِ ماء.
3.هل تحول العراق لمكب لزبالة صناعات السيارات في المنطقة؟! هكذا سألتُ أحدهم وأنا أرى أكثر من سيارة (مفور) محركها و(مفور) سائقها وهو واقفٌ أمامها في الزحام وتحت (فرن) الشمس وجحيم اصوات المنبهات التي تصم الآذان وتربك الاذهان. ذكرني ذلك المنظر بسياراتنا في ايام الحصار في التسعينات من القرن الماضي.
4.منظر الآليات والرافعات وهي تعمل في بعض الشوارع يبهج النفس ويبعث التفاؤل،فلربما العجلات دارت والأمنيات صارت.
حاجة انسانية
5.مازال سوق العقار في بغداد يقفز للعنان حتى انه بات اعلى من اعلى البلدان!! أقتصادياً،فهذا يعني وجود سيولة مالية لدى شرائح معينة لا تجد لها مكاناً آمناً،أو استثماراً آخر فتلجأ للعقار الذي بات مخزن للقيمة وليس حاجة أنسانية. يبدو ان الاقتصاد العراقي المنتِج غير قادر على جذب الاموال واعادة تدويرها. سوق العقار والمطاعم واماكن الترفيه هي القطاعات التي تشهد ازدهاراً ونمواً في بغداد مما يؤكد ان الاقتصاد الحقيقي ما زال غير فاعل ولا عامل.
6.حينما تراجع الدوائر في العراق لانجاز معاملتك فأنت أمام خيارَين: روتين متهرىء وأعوج، أو فسادٍ فاضح وأبلج. غالباً ما ستضطر للجوء للفساد لتجتاز الصعاب والشِداد.
7.أما أذا كانت لديك معاملة بنكية فأنت متهم وغاسل للاموال وفاسد ومشكوك بأمرك حتى ولو اثبتَّ لهم العكس. الكل يتعكز على رقابة النزاهة،وشدة التدقيق من الدوائر الرقابية كسبب لهذا(التشدد) في التعامل.هنا يقفز للذهن مباشرة سؤال: مادامت هكذا هي الرقابة والمحاسبة على الأموال حتى(النزيهة منها) فكيف خرجت الأموال (غير النزيهة) إذاً؟!! لماذا التشدد مع (الماعنده ظهر) و(التساهل)مع نور زهير وهيثم الجبوري وسواهما ممن أخرج لسانه للنزاهة محتمياً بأموال ونظام السياسة والوجاهة!!
حين يحل المساء في بغداد فانت امام سحرٍ لا ينتهي وخيالٍ لا ينقضي.فليل بغداد أحلى بلاشك من صباحها،وروح اهلها تسمو على أتراحها. أما لذة طعامها فستنسيك كل آلامها وجراحها.