في عالم الدراما العراقية، يبرز مسلسل “الجنة والنار” كإحدى المحاولات الجريئة لإعادة صياغة السرديات التي طالما تم التعامل معها بحذر أو تحريف. ما يجعل هذا العمل مميزاً ليس فقط قصته، بل النهج الذي اتبعه كاتبه ومخرجه مصطفى الركابي في تقديم تلك القصة. هنا، نتوقف أمام هذا العمل بفكر نقدي محترف، لنسبر أغواره ونستعرض التحديات والفرص التي يوفرها للمشهد الدرامي العراقي.
لا يمكن الحديث عن “الجنة والنار” دون الإشارة إلى جذوره الواقعية العميقة. فالركابي، وهو يخطو بخطوات ثابتة في عالم الدراما، لا يكتفي فقط بعكس صورة المجتمع الجنوبي، بل ينغمس في تفاصيله الدقيقة، من اللهجة إلى التصرفات اليومية، ليمنح المشاهد فرصة نادرة لاستكشاف هذا المجتمع بعيداً عن الكليشيهات المعهودة. ولكن هل تكفي الواقعية وحدها لإحداث التأثير المطلوب؟
إن تقديم الشخصيات الجنوبية بكل تعقيداتها وتناقضاتها كان ضرورياً في هذا العمل. فالجنوب العراقي، الذي غالباً ما تم تجاهله أو تقديمه بصورة ساخرة، يظهر هنا بجميع جوانبه الإنسانية، من الفرح إلى الحزن، ومن العنف إلى التسامح. ومع ذلك، يتطلب هذا النهج مزيداً من العمق والتطوير حتى يتمكن من تجاوز تحديات السرد السطحي أو التكرار.
لقد ظلّت الشخصيات الجنوبية لعقود تُقدم في الدراما العراقية بطرق مشوهة ومهينة في بعض الأحيان. من هنا، يأتي “الجنة والنار” كتحدٍ صريح لتلك السرديات القديمة. الركابي لا يتجنب العيوب، ولا يسعى لتجميل الصورة، بل يقدمها كما هي، بكل تناقضاتها. هذا الصدق في السرد هو ما يميز العمل ويجعله قريباً من الواقع، بعيداً عن التجسيد المثالي أو الكاريكاتوري.
على الرغم من أن “الجنة والنار” يقدم نقلة نوعية في الدراما العراقية، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات كبيرة. هناك حاجة ماسة إلى تطوير السرد ليشمل تفاعلات أعمق مع الواقع السياسي والاجتماعي للعراق. فالعالم الذي يصوره الركابي معقد ومتعدد الأبعاد، وبالتالي، فإن تقديم هذه الأبعاد بشكل مقنع يتطلب مزيداً من الجرأة والتحليل العميق.
يبقى السؤال الأهم هو: هل يمكن لمصطفى الركابي أن يستمر في تقديم هذا النوع من الأعمال بفعالية؟ هل سيتحول “الجنة والنار” إلى نقطة انطلاق لمدرسة درامية عراقية جديدة، أم أنه سيظل مجرد استثناء في عالم لا يزال يعاني من قيود السرديات التقليدية؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب وقتاً ومزيداً من الأعمال التي تتجاوز التحديات الراهنة وتؤسس لسرديات جديدة تعكس تعقيدات الواقع العراقي بشكل أفضل.
في النهاية، “الجنة والنار” ليس مجرد مسلسل، بل هو جهد جريء لتقديم صوت جديد ومختلف في الدراما العراقية. إنه عمل يحمل في طياته الكثير من الإمكانيات، لكنه في نفس الوقت يضع أمام صانعيه تحديات كبيرة يجب مواجهتها إذا أرادوا أن يتركوا أثراً دائمًا على هذا الفن.