تركيا، التي كانت يومًا ما قلب إمبراطورية عثمانية عظيمة، تجد نفسها اليوم في موقف حرج يعكس التحولات الكبرى في النظام العالمي. انضمامها إلى حلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية وضعها في دور استراتيجي كحارس للبوابة الشرقية للحلف ضد الاتحاد السوفيتي سابقًا وروسيا حاليًا. هذا الدور لم يكن مجانيًا؛ فقد حصلت تركيا على استثمارات أوروبية وأمريكية ضخمة أعادت تشكيل اقتصادها وجعلته يعتمد بشكل أساسي على التصنيع والتجميع لصالح الصناعات الأوروبية، خاصة في قطاع السيارات. لكن هذا النموذج، الذي بدا كأنه انتعاش اقتصادي، كان في الحقيقة قيدًا طويل الأمد، ربط الاقتصاد التركي بمصير أوروبا.
الاقتصاد الأوروبي، الذي نهض بفضل الاستثمارات الأمريكية منذ خطة مارشال، أصبح اليوم هشًا بسبب سحب رؤوس الأموال الأمريكية التي تقودها “الدولة العميقة” في إطار تحضير أوروبا لحرب محتملة قد تكون ساحتها الرئيسية. آلاف المصانع الأوروبية أُغلقت نتيجة لهذه الخطوة، مما انعكس سلبًا على الاقتصاد التركي الذي يعتمد بشكل كبير على الصناعات الأوروبية. تركيا، التي لطالما استغلت موقعها الجغرافي بورقة اللاجئين السوريين للضغط على أوروبا، تواجه الآن فقدان هذه الورقة، مع استقرار الأوضاع في سوريا واحتمال عودة اللاجئين، مما يجعلها تفقد واحدة من أبرز أدواتها السياسية في التعامل مع الغرب.
الأزمة لم تقف عند هذا الحد. إيران، التي استثمرت حوالي 6 مليارات دولار في سوق العقارات التركي، قد تضطر إلى سحب استثماراتها في ظل تدهور الاقتصاد التركي الذي يعاني من تأثير أزمة أوروبا. هذا الانسحاب المحتمل سيضيف مزيدًا من الضغوط على الاقتصاد التركي، مما يعمق أزمته ويكشف هشاشة اعتماده على استثمارات خارجية غير مستدامة.
وسط هذه التحولات، تبرز روسيا والصين كبديلين محتملين لإنقاذ الاقتصاد التركي، لكن الثمن سيكون باهظًا: الخروج من حلف الناتو والانضمام إلى محور روسي-صيني-إيراني. هذا التحالف سيغير بشكل جذري موقع تركيا في النظام العالمي ويضعها في مواجهة مباشرة مع الغرب. الخيارات المتاحة أمام تركيا كلها تحمل تبعات خطيرة. البقاء في الناتو يعني استمرار الاعتماد على اقتصاد غربي متعثر، بينما التحول إلى المحور الشرقي يعني فك ارتباطها بالغرب وتحمل تكلفة سياسية واستراتيجية هائلة.
التحديات التي تواجهها تركيا اليوم هي انعكاس لتحولات أعمق في النظام العالمي. دورها كحارس للبوابة الشرقية كان مفيدًا في الماضي، لكنه اليوم بات عبئًا يهدد بتآكل مكانتها إذا لم تتمكن من إعادة تعريف استراتيجيتها. تركيا ليست أمام خيار سهل، لكن قراراتها في هذا المفترق الحاسم ستحدد مصيرها لعقود قادمة. هل ستستطيع أن تتحرر من قيود التحالفات الكبرى وتبني نموذجًا مستقلًا؟ أم أنها ستبقى رهينة لعبة الأمم التي تقودها القوى الكبرى؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد موقع تركيا في النظام العالمي الجديد الذي يتشكل الآن.