منذ تأسيس الدولة العراقية قبل مائة عام ونيفٍ , تبدلت العهود من البريطاني و قبلها العثماني الى العهدين الأمريكي و الايراني , و تغيرت الانظمة السياسية من الملكي الى الجمهوري , الدكتاتوري ثم الديمقراطي الهجين . و في تلك العهود و الأنظمة كان الشعب و لم يزل يعيش حالات من الفقر و الجهل و الحروب و القمع و الاحتجاجات و التظاهرات لفقدان رضا المواطنين بتلك النظم السياسية الحاكمة . و تعدد الانتماءات للاحزاب التي تزيح بقسوة كل منهم الآخر , ليس لخدمة الوطن و الشعب , و إنما للتمسك بالسلطة و المال و الهيمنة .
دولة مصطنعة تتأثر بالازمات , و أنظمة عملت على تفكيك المجتمع وفق الهويات الفرعية المذهبية و العشائرية و القومية التي تغلبت على المواطنة و الهوية الجامعة , وكان نصيب الفرد هو مدى إنتمائه لهذا الحزب و تلك الحركة السياسية التي تحقق وجوده و رغباته في مجتمع يمجد السلطة و يُعلي من شأن و أهمية المسؤول و السعي للتقرب من حاشيته لصناعة مستبد .
تبادل الاتهامات
قرن من الزمن و كل نظام يأتي يمدح الجمهور لما سبقه و يقارن بين هذا و ذاك على الرغم من إن التالي لايشبه ما سبقه من حيث المنهج و الساسة و ما يؤمنون بآيديولوجيات متباينة و أخرى مختلفة . غير إن السلوكيات و الأدوات والتدابير تتشابه من حيث الفعل و تختلف من ناحية الشكل , ليستمر الجدل , النقاش ,الصراع، الاختلاف ، الاتفاق ، اللغو ، تبادل الاتهامات ، النفاق ، الانتهازية و تعدد الانتماءات .. كل ذلك يحدث لإختلافات المتضررين و المستفيدين من كل سلطة كانت لها القوة في الحكم تقدم الامتيازات لادواتها و سلبها من الأدوات السابقة , بصرف النظر عن حكمة و أفضلية النظام المنتهية (صلاحياته ) , فكل حزب يسعى الى قيادة القطيع الذي يخضع لكل سلطة سواء بالاستبداد أو التضليل أو كلاهما معا . و قد كشفت الأنظمة التي توالت على الحكم , إن هذا اللهاث خلف السلطة تحت أغطية شتى آيديولوجية أو مذهبية و عرقية , هو لتبرير القبض عليها و التمسك بها (صارت عدنه و ما ننطيها) مثالاً .
إن هذا التصور يدفعنا الى التساؤل حول موعد ولادة زمن الشعب في حكم نفسه و بناء الحاضر و التطلع نحو المستقبل , لاسيما بعد المتغيرات الأقليمية و سقوط النظام السوري , إذ تعيش الطبقة السياسية في العراق حالة من الخوف , فيما ينتاب الشعب القلق من إحتمالات الفوضى التي سبق أن عانى منها عند وقوع التغيير السياسي بتدخل خارجي .
فيما أخذت وسائل إعلام عديدة ذات خطابات دون وطنية عرضها بالتحليل و التأويل , مما أسهم باثارة القلق و تهديد الواقع غير المستقر باعتماد تسريبات و أخبار نشرتها صحف غربية حول العراق و ليس مصادر رسمية مسؤولة في تلك الدول.
و في مقدمتها أمريكا التي صاغت نظام التحاصص و العملية السياسية التي حقنتها بانواع من المعضلات و الازمات كي تظل تكابد من مشكلات بنيوية ما برحت قائمة بعد عشرين عاماً من العهد الامريكي .
إن التكرار و التوكيد وفق المفكر الفرنسي غوستاف لوبون يصنعان التصورات و المعتقدات خاصة , إذا ماشُحنا بجرعات عاطفية و مؤثرات بصرية إيحائية ) لتظيف أزمة أخرى الى الواقع المأزوم . لأن تناول و كشف تلك الوسائل بشكل متكرر للصراعات و النزاعات و فساد مؤسسات الدولة و الافلات من العقاب يؤكد مؤشرات الفشل و يدعو الدول الاخرى الى التدخل بذريعة الحل . ذلك إن ولادة الازمة يأتي بسبب من عدم تبلور أفكار جديدة من شأنها التغلب على إختلالات الواقع , و كذلك تحدث الازمة مثلما يرى المفكر الايطالي غرامشي (عندما يموت القديم ,و لكن الجديد لم يولد بعد) . و الثابت أن التغيير و الاصلاح و النهوض يبدأ من الداخل بالوعي و الحرية و الجرأة و قد تجلى ذلك عند وقوع حراك تشرين الذي يُعد الأكبر في التضحيات و المدة و الغايات , غير إنه قمع قبل الفطام , بأساليب التخوين و القتل و الاعتقالات و إطلاق كل الاتهامات ضد جمهوره الذي مازال يشكل تحدياً كامناً للطبقة السياسية مع بزوغ كل أزمة . بعد أن أهملت تلك الطبقة (قدسية الوطن ) باختراق السيادة من قبل قوى خارجية , و عدم تأمين الحاجات الأساسية للمواطن تمهيداُ للارتقاء بجودة الحياة و حفظ كرامته ذلك الحراك الذي وصف جمهوره بالوعي العفوي , ورفع شعار (نريد وطن) ليس للحفاظ على الوجود الجغرافي فقط , و إنما لتحقيق الإنتماء من خلال تأمين الحقوق و قيم الحرية و العدالة الاجتماعية و المساواة و هي أهداف التغيير التي لا تتحقق ( إذا لم ينلها مصلحون بواسل … صريحون في مايدعون كُفاة ) (الجواهري) و بعد ولادة الجديد , و تقويض سلطة القوى التقليدية التى تتكئ عليها الحركات السياسية في كل العهود بالرغم من تغير أنظمة الحكم .