لا أحد يكره الشمس، لكنها تزعج من اعتاد الظلام. كذلك الحق، لا يُعاديه الناس لأنه غامضٌ أو مفقود، بل لأن رؤيته تستدعي مواجهةً لا يجرؤ عليها كثيرون. المشكلة لم تكن يومًا في وضوح الحق، بل في استعداد العقول لتحمله دون أن تبحث عن مهرب.

 

“لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”، قالها الإمام عليّ، لا كمجرد موعظة، بل كتحذيرٍ من وهمٍ متكرر: أن كثرة الطرق تعني أن الحقَّ متعدّد، وأن قلة السالكين تعني أن الطريق مهجورٌ لعيبٍ فيه، لا لعيبٍ في العابرين. الحقيقة الصادمة هي أن الحق لا يحتاج إلى تصديق أحد ليكون حقًا، بل السائرون فيه هم من يحتاجونه ليكونوا صادقين مع أنفسهم. لهذا، لم يكن الحق يومًا طريقًا مزدحمًا، ولا سلعةً تُباع بين خيارات متعددة، بل كان دائمًا دربًا قاسيًا، لا يسلكه إلا من امتلك الجرأة على أن يرى الأشياء كما هي، لا كما يريدها أن تكون.

 

لكن لماذا يبدو هذا الطريق موحشًا؟ هل لأن الحق معقد؟ أم لأن العقول مصابة برُهاب الحقيقة؟ الإنسان بطبيعته يخشى ما يفرض عليه إعادة الحساب، وما من شيءٍ يهدد استقرار قناعاته مثل مواجهة حقٍّ لا يقبل المساومة. لهذا، لم يكن الحقُّ مجرد اختبار فكري، بل كان كابوسًا لكلّ من اتخذ من الأوهام مسكنًا. ليست المشكلة أن الحق متغير، بل أن النفوس تحاول جعله كذلك، لا بالبحث عنه، بل بإعادة تشكيله ليبدو متوافقًا مع هشاشتها. تمامًا كما لا يتغير شكل القمر، لكن الناس اعتادوا أن يروه بأطواره لا بحقيقته، فتوهّموا أن النقص فيه، بينما النقص كان دائمًا في قدرتهم على رؤيته كاملًا.

 

وهنا تكمن الخدعة الكبرى: العقل لا يُنكر الحق لأنه يجهله، بل لأنه يخشى ما يترتب عليه. قال سيغموند فرويد: “البشر ليسوا مخلوقات عقلانية، بل مخلوقات تبريرية”. مواجهة الحق تعني هدم الكثير من المسلّمات، إعادة تعريف الذات، وربما نسف صورة الإنسان عن نفسه. ولهذا، حين يصطدم العقل بحقيقة تتناقض مع ما يريد تصديقه، فإنه لا يرفضها بوضوح، بل يعيد تشكيلها، يضيف إليها ويقتطع منها، حتى تصبح متوافقةً مع راحته النفسية. ليس الجميع مستعدًا لتحمّل كلفة الحق، لذا يفضّلون إنكاره بذكاء، لا بجهل.

 

لكن المعضلة الفلسفية الأعمق ليست في أن الإنسان ينكر الحق، بل في أن قدرته على إدراكه محدودة بمدى استعداده لتحمل نتائجه. هنا، يبرز السؤال الذي حيّر الفلاسفة منذ القدم: هل نرى الحقيقة كما هي، أم كما يسمح لنا وعينا برؤيتها؟ الفيلسوف إيمانويل كانط ذهب إلى أن عقولنا لا تدرك الحقيقة المطلقة، بل تعيد تشكيلها وفقًا لحدودها الداخلية، وأن ما نعتبره “حقيقة” ليس إلا تفسيرًا عقليًا محدودًا للواقع المطلق. وإذا كانت العقول البشرية مقيدة ببنيتها، فكيف لها أن ترى الحق كاملًا دون أن تُشوهه؟ وإذا كان الحق واحدًا، فلماذا تتعدد طرق فهمه؟ أليس هذا دليلًا على أن الإنسان، حين يعجز عن استيعاب الحقيقة، يفضل أن يُعيد خلقها بدلًا من قبولها؟

 

وهكذا، يتحوّل الحق من كونه معيارًا يُقاس به كل شيء، إلى مجرد خيارٍ وسط قائمة من الاحتمالات. في النهاية، لا يُصبح السؤال: “ما هو الحق؟”، بل “أيُّ نسخةٍ منه تناسبك أكثر؟”.

 

ولهذا يخلو طريق الحق من السالكين، لا لأنه مجهول، بل لأنه كالحقيقة العارية، لا يجامل، ولا يقبل المساومة. ومن يعبره، ليس من عرف الحق فقط، بل من امتلك الجرأة الكافية لرؤيته دون أن يرتجف. فالحقُّ، في جوهره، ليس صعبًا، لكن مواجهته تستهلك من الإنسان أكثر مما هو مستعدٌّ لخسارته. والسؤال الفلسفي الحقيقي إذن ليس: “لماذا يختلف الناس حول الحق؟” بل: “لماذا يخافون من رؤيته كما هو؟”

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *