حملته أمه وهنا على وهن فلما قوي عوده واشتد ساعده وبلغ مبلغ الرجال أنكر ما لأمه من فضل عليه واستهان بها وهي في شيخوختها وعجزها ، أنكر عليها حقوقها ونظر اليها نظرة اللئيم الجبان .
أعطته حبها وحنانها فكان جزاؤها الهجر ، سقته من لبنها فكافأها بالشتيمة ، سهرت عليه الليالي فكافأها بالعقوق .
تركها عرضة لنوائب الدهر وقسوته وبطشه .. عليلة سقيمة جائعة ، تستجدي الصدقة من الناس وهو قد آثر عليها نفسه وامرأته وأولاده .
كثير من مثل هذا الرجل العاق يتسكعون على هامش الحياة يتباهون بصحتهم وشبابهم ، متناسين أنه سيأتي عليهم يوم تضيع معه الصحة والشباب وأن أولادهم سيكونون أقسى عليهم مما فعلوا هم مع أمهاتهم .
حينما تنزع الرحمة من قلب الانسان فما الجدوى من حياته ، انه حينئذ ليس الا وحشا كاسرا كسائر الوحوش ، لا خير يرتجى منه ولا أمل ، أجل من تهاون بحق أمه فبطن الأرض أحق بايوائه .
غير أن هذه الصورة قد تتبدل حينما ترى ابنا بارا يأخذ بيدها حتى الرمق الأخير لحياتها , يكرمها ويرعاها كما أكرمته ورعته وهو جنين في أحشائها تكابد الأمرين في ثقل حملها ، تسعة أشهر وهي لا تلقى راحة ولا سكينة ..تعبة مهمومة ، حتى اذا وضعته وضعته كرها كما حملته كرها ، فكانت ساعة المخاض قاسية شديدة الوطأة ، فلما أبصر نور الدنيا من بعد ظلمات ضمته الى صدرها ، روته من لبنها حولين كاملين ، تسهر آناء الليل وأطراف النهار في قيظ وبرد ، اذا أخذها الكرى نامت بعين واحدة مضطربة ملتاعة أن يصيبه مكروه ، تطعمه وتسقيه قبل أن تطعم نفسها وتسقيها حتى اذا استوى ووقف على ساقه ثم خرج بعد ذلك الى معترك الحياة ظلت تنتظر عودته اليها بفارغ الصبر ، تدعو له من قلبها بأن يكون له شأن وأي شأن .
فهل أعطى حتى هذا الابن البار جزءا من احسانها وفضلها عليه ؟ لا ثم لا فهو غير قادر على الايفاء بما في ذمته عليها وهو عاجز تماما أن يرد دينها .
فليكن كريما معها على الأقل من غير من أو أذى ، ليقل الكلمة الطيبة ومعها الابتسامة العذبة ، انها لن تطمع بكثير وحسبها عافيته وسعادته ، فما أجدر به أن يكون منصفا معها وهي في سنوات الضر والعجز والضعف كي يسدد بعض الدين الذي عليه حتى تفارق هذه الدنيا بعين الرضا على من وهبته حياتها .