الدولة منظومة أمنية متكاملة يُكمل حلقاتها بعضها بعضاً ، إن أصاب الخلل إحداها بان الاختلال واضحاً وإن حرص القائم على أمرها ، على التبرير والتغطية وربما التورية ، وبالقطع أن سلسلة حلقات أمن الدولة متساوية حجماً وأهمية وحساسية ، وإن تقدم بعضها على بعض أولوية ، فلا دولة عصرية دون أمن عمراني ، ولا دولة مستقرة دون أمن اقتصادي ، ولا حديث عن دولة مقتدرة دون أمن خارجي ، ولا دولة جاذبة دون أمن شخصي ، ولا دولة متقدمة دون أمن تكنلوجوي ، ولا دولة متعافية دون أمن صحي ، ولا دولة حاضنة دون أمن مجتمعي . وفي علم السياسة يميز المتخصصون بين الثورة والانقلاب ، فالثورة حركة شعبية هدفها التصويب ، والانقلاب حركة القلة من أجل السلطة ، وترتبط الثورة غالباً بالجياع ، فقتل شعب مترف لا يبرر الثورة ، لكن تجويع شعب غني ينتهي الى الثورة حتماً وإن طال الأمد وأمتد الصبر وظن المستبد أن الشعب غائب مستكين . في العراق تفاخر الراحل ومن سبقه من حكام المرحلة الشمولية ، بأسبقية العراقي في الذود عن حدود وشعوب دول الإقليم ومن شاركهم العروبة ، فحول الشعب الى حطب لنيران أوقدت ، لتحرق الغير فأحرقت العراق وشعبه ظلماً وعدواناً ، فتحول العزيز الغني الأبي الديّن الغيور الشجاع المغاور الى مرتزق كي يعيش الآخر آمن متنعم مترف ، ويحدثونك عن الشجاع وشراكة المصير وأسبقية الدفاع ورد العدوان والذود عن الضعيف ، والشعب قُتل وتعوق وهُجر وأمتلأت به غياهب السجون ، ومؤخراً جاع وافترش الأرض مطالباً بفرصة عمل ، أو اعانة اجتماعية أو حصة تموينية ، فذُل العزيز الذي أشبعت مائدته بلداناً وشعوب في أقصى اصقاع الأرض ، فأهدرت الاموال وتبددت الثروات وضاعت الموازنات ، بقصد بناء امجاد زائفات وشعارات كاذبات واحلام مضللات ، فرحل الباحث عن المجد الخاوي بعد أن جاءت قراراته على الوطن وحدوده وشعبه وثرواته ، ويحدثونك عن الزمن الجميل والعيش الرغيد والأمن الشخصي وعدم التمييز والعدالة الاجتماعية ، والعبثيات من الحروب أماتت وأقبرت وأعاقت واجاعت وأهدرت وحاصرت وضيقت وجاءت على الثروة والبشر ، لكن ذلك كله لا يبرر حجم الظلامات وتفشي الانحرافات وضياع الثروات وتبذير الخيرات وتهريب العائدات في عهد القادم الجديد، فقد حملت منظومة الحكم الجديد شعار تعويض الظلمات ووقف الانتهاكات وحفظ الكرامات وتقديم الشعب وأولوية الوطن ، ويقيناً أن مهمة بناء وطن حر ونشر ثقافة شعب مقدم والبحث عن مكانة بين المتنافسين الأضداد ، مهمة شاقة صعبة عسيرة ، لا سيما والإقليم يستهدف والشقيق يقاطع والطامع يعرقل والمرتاب من التجربة يُظلل . لقد رافقت تجربة العراق الجديد كل السلبيات ، فالإرهاب يعصف ، والخدمات غائبة ، الصحة في تراجع والتعليم في تقهقر ، البطالة متفشية ، وغياب فرص العمل في تزايد والتضخم في تصاعد ومعدلات الفقر في ارتفاع ، رافق هذه الإشكاليات غياب أمن المستهلك ، فنفايات الأسواق العالمية تغزو السوق العراقية ، من الفاسد والتالف ومنتهي الصلاحية ورديء المنشأ ، واللافت أن التالف يساق بسعر أعلى من الصالح النافع الصحي ، واجهزة الدولة غائبة مغيبة راقدة في سبات وربما في فساد ، فلا جهاز يتابع ، ولا جهة تلاحق ولا أمن يعتقل ، والدخيل من التجار يغرق السوق بالتآلف ويحرقها بالأسعار ، وهل من بيئة أكثر أمناً من سوق يستورد التالف و يسوق منتهي الصلاحية ويجني الفاحش من الأرباح ، والشعب مغلوب على أمره والقانون مغيب والمعني يركن للسكون ، متجنباً الملاحقة الشخصية والدكة العشائرية والاستهداف الشخصي والتهديد الأمني . على المتصدي أن يعلم إن كان جاهل ، وليتيقن إن كان في شك ، وليؤمن إن كان في ظن ، أن الشعب يعض على الجرح ، ويركن للهدوء ، ويمنح الفرص ، ويختلق الأعذار ، مراعاة الظرف ، وتجاوز لازمة وعبور لمرحلة ، لكن ثورته إن اندلعت نيرانها لن تخمدها هراوات أو توئدها نيران أو تقتلها رصاصات حية ، فالشعب صابر ساكن محتسب إن قلت الخيرات وشحت الثروات وتراجعت الواردات ، لكن ثورته تقطف رؤس وتقطع اعناق وتهدم حصون وتهدم مشيدات ، إذا تفشت الظلامات وسرقت الاموال وبددت الخيرات وهربت المليارات ، فتاريخ كبريات الثورات وقف ورائها شعب جائع وصوت مقموع . لقد جاع شعب غني وذل مجتمع أبي وترجع وطن عزيز ، واللذة تعبث برأس مصدر القرار حتى ظن أن الشعب غائب وصوته مقموع ورأيه مصادر ، وهو لا يعلم أن شعب العراق أعجز حكام وأسقط شموليات وحرك شعوب وصحى نيام ، فهو معافى وغيره مريض ، وهو حي وغيره ميت وهو أبيّ وغيره ذليل ، ففرصة التصحيح لما تزل قائمة ، والاعتراف بالشطط فضيلة ، والاعتذار للشعب شجاعة ، فقد ارتفعت الأسعار ، وجاع الشعب ، وذُل العزيز ، وأمن الأسعار غائب ، ومراقبة المحتكر ضعيفة وملاحقة المتلاعب قول دون فعل ، ويقيناً أن تأتي الصحوة متأخرة خير من أن لا تأتي ، فلا يزال للتصحيح وقت ، وللتصويب فرصة ، لكنها إن فاتت لن تأتي وإن غابت لن تعود ، وصوت الشعب يعلو ولن يعلو عليه صوت السلطة وإن حرصت