ما برحت مجامر الفراق على أخي الذي أستشهد في هور الحويزة عام 1986 متقدة من فرط الشجن ،و الرحيل المفاجئ الذي ترك حزناً رابضاً في العيون ،أفاق الحقيقة التي أخذت ترافقنا قبل ان يبلغ الحلم.
ذهب أصدقائي وغيرهم من الاحبة ،صورهم لم تزل على الجدران نرنو اليها شوقاً،و قبلها حكاياتهم و ضحكاتهم المرسومة على صفحة القلب تتحدى النسيان،ثلاثون عاماً و نيفٍ يطرقون ابواب القلب كالمطر على سفوح الذاكرة.
تركوا أمهاتهم ثكلى و نسائهم أرامل و أولادهم يتامى في حرب أنتهت لا غالب فيها و لا مغلوب . سرقت فيها أحلى السنوات لأجيال تمزقت أحلامهم و أرضعهم أستبداد السلطة الخوف و الطاعة كي يسلب خياراتهم و قناعاتهم المهدورة .
للآن الثكالى و الارامل و الايتام تتحول اعيادهم و مناسباتهم مواقيت لزيارة شواهدهم البالغة 300 ألف ،و غيرهم مئات الاف الجرحى و الاسرى و المفقودين . جراحهم لم تنكأ بعد. سنوات من الألم ،الضياع ،القلق ،الرعب ،التهديد و اوجاع لا تسدلها ستائر الايام الشاحبة ،حطام أنسان لكنه لم يهزم . و مآقي فاضت دمعاً عليهم حتى بخلت على غيرهم ،و لم يبق في القلب منزع . فقد ظلت تنزف مذ عرفت الحياة ،ففي كل يوم دم يسفح ،و حريق ينشب وقوده الانسان المهدور ،لتأخذ حالات استلاب الوعي أشكالا شتى ،حتى بلغت برامج القنوات الفضائية تحت شعارات الحرية و الحوار و الرأي الآخر ،لطرح قضايا تجرح او تستفز المتلقي.
ففي برنامج القرار لكم الذي تبثه قناة دجلة ،قام المتحاورون و مقدمة البرنامج ،بأطلاق الضحك حد القهقهة ،حين تحدى احد الضيوف ،ضيفه الاخر بتسمية الشهداء العراقيين إبان الحرب العراقية الايرانية شهداء و ليس ضحايا،إذ أصر الآخرو هو نائب في البرلمان على رفض كونهم شهداء ،وهو يضحك و المذيعة تقهقه!.
و اعتقد أن البرامج الحوارية أضحت أحد أهم وسائل التنفيس التي تمارسها وسائل الاعلام و الاحزاب و السلطة ،للتغلب على الاحتقان الذي يرافق الجمهور إزاء المشهد السياسي و الاقتصادي و الامني .و ليس إشاعة الوعي و صناعة رأي عام إزاء القضايا التي تمس حياة الناس ،لغياب المعلومة الصادقة التي تتعلق بالاحداث التي تحصل بين الفينة و الاخرى.
غير ان تلك البرامج يتوجب عليها الولاء للمواطن و الوطن و ليس استفزازه او السخرية من احزانه و عواطفه فذلك إعتداء و تجاوز على اخلاقيات المهنة و مشاعر المتلقي . وخيانة للارواح التي أزهقت و الدماء التي سفكت أنهاراً.