‏ومن‭ ‬العشاق‭ ‬مَن‭ ‬يبكي‭ ‬لبكاء‭ ‬الحمائم‭. ‬ومنهم‭ ‬مَن‭ ‬يبكي‭ ‬على‭ ‬تذكار‭ ‬محبوب‭ ‬إذا‭ ‬شدَّه‭ ‬الحنين‭. ‬ومنهم‭ ‬مَن‭ ‬يبكي‭ ‬كلما‭ ‬لاح‭ ‬برقٌ‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬أو‭ ‬هبَّ‭ ‬نسيم‭.. ‬إنهم‭ ‬يشتاقون‭ ‬إلى‭ ‬غائب‭ ‬وهو‭ ‬حاضر‭ ‬لا‭ ‬يغيب‭. ‬
‏ومن‭ ‬أرقِّ‭ ‬عبارات‭ ‬الشوق‭ ‬وأصدقها‭ ‬ما‭ ‬تقرأه‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ “‬الزهرة‭” ‬لأبي‭ ‬بكر‭ ‬الأصبهاني‭. ‬فهو‭ ‬رقيق‭ ‬الإحساس‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الدمعة‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬من‭ ‬كثرت‭ ‬لحظاته‭ ‬دامت‭ ‬حسراته‭.. ‬ومن‭ ‬تداوى‭ ‬بدائه‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬شفائه‭.. ‬ومن‭ ‬طال‭ ‬سروره‭ ‬قصرت‭ ‬شهوره‭.. ‬ومن‭ ‬قصرَ‭ ‬نومه‭ ‬طالَ‭ ‬ليله‭.. ‬وبُعد‭ ‬القلوب‭ ‬على‭ ‬قرب‭ ‬المزار‭ ‬أشدُّ‭ ‬من‭ ‬بُعد‭ ‬الديار‭ ‬من‭ ‬الديار‭.. ‬ومَن‭ ‬شابت‭ ‬ذوائبه‭ ‬جفاه‭ ‬حبائبه‭!.‬
‏وفي‭ ‬ديوان‭ “‬المثنوي‭” ‬يرسم‭ ‬لنا‭ ‬شاعر‭ ‬التجليات‭ ‬واللمحات‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي‭ ‬في‭ ‬ثلاثين‭ ‬ألف‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬لوحات‭ ‬باهرة‭ ‬الجمال‭ ‬من‭ ‬الجلال‭ ‬والخيال‭ ‬يبدأها‭ ‬بقوله‭: ‬استمع‭ ‬للناي‭ ‬تشكو‭ ‬باحتراق‭.. ‬وهي‭ ‬تروي‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬عهدَ‭ ‬الفراق‭!.‬
‏ومن‭ ‬أجمل‭ ‬أشعار‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬قصيدة‭ “‬شربنا‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬الحبيب‭ ‬مدامة‭” ‬وهذه‭ ‬المدامة‭ ‬سطر‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬لوح‭ ‬الوجود‭.. ‬وابن‭ ‬الفارض‭ ‬كان‭ ‬مقيماً‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬يتشوَّق‭ ‬إلى‭ ‬نجد،‭ ‬وهواه‭ ‬في‭ ‬الحجاز‭: ‬
‏حنينـاً‭ ‬إلــى‭ ‬أرضٍ‭ ‬كأنَّ‭ ‬ترابَهــــا
‏إذا‭ ‬أمطرتْ‭ ‬عودٌ‭ ‬ومسكٌ‭ ‬وعنبرُ
‏زرته‭ ‬مرة‭. ‬فرأيته‭ ‬يزدحم‭ ‬بأفواج‭ ‬من‭ ‬السالكين‭ ‬والسامرين‭. ‬يتجمَّعون‭ ‬عند‭ ‬قبره‭. ‬والمحبُّون‭ ‬والمريدون‭ ‬لا‭ ‬يهجرون‭ ‬مقام‭ ‬أحبائهم‭ ‬مهما‭ ‬تعسَّرت‭ ‬بهم‭ ‬الأحوال‭. ‬
‏وقد‭ ‬تسلطن‭ ‬هذا‭ ‬الصوفي‭ ‬العظيم‭ ‬على‭ ‬قلوب‭ ‬عشّاقه‭ ‬ثمنمائة‭ ‬عام‭. ‬ولم‭ ‬يجرؤ‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬منافسته‭ ‬في‭ ‬هواه‭ ‬حتى‭ ‬سمّوه‭ ‬سلطان‭ ‬العاشقين،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭:‬
‏كلُّ‭ ‬مَن‭ ‬في‭ ‬حماكَ‭ ‬يَهواكَ‭ ‬لكـنْ
‏أنا‭ ‬وحدي‭ ‬بكلِّ‭ ‬مَنْ‭ ‬في‭ ‬حِماكــا
‏والشوق‭ ‬عند‭ ‬هؤلاء‭ ‬العشاق‭ ‬لا‭ ‬نهايات‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬حدود،‭ ‬والغاية‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬الحبيب،‭ ‬ومن‭ ‬عشقَ‭ ‬وكتمَ‭ ‬وعفَّ‭ ‬فماتَ‭ ‬فهو‭ ‬شهيد‭. ‬
‏وهم‭ ‬يمارسون‭ ‬أشواقهم‭ ‬بشهيّة‭ ‬الجوع،‭ ‬وبالعطش،‭ ‬وبالصوم،‭ ‬وبالحرمان‭ ‬لتجويع‭ ‬الشوق‭ ‬الذي‭ ‬كلما‭ ‬جاع‭ ‬يكبر‭. ‬وبالدعاء‭: ‬اللهمّ‭ ‬نسألك‭ ‬لذّة‭ ‬النّظر‭ ‬إلى‭ ‬وجهك‭ ‬الكريم،‭ ‬والشّوق‭ ‬إلى‭ ‬لقائك‭.‬
‏وهؤلاء‭ ‬العشاق‭ ‬غلبهم‭ ‬الحب‭ ‬وقهرتهم‭ ‬الصبابة‭. ‬وكلهم‭ ‬يشتركون‭ ‬بنوح‭ ‬الحمام،‭ ‬وطيف‭ ‬الخيال،‭ ‬والرضا‭ ‬بالقليل‭.. ‬وهم‭ ‬يهيمون‭ ‬مع‭ ‬أبي‭ ‬يزيد‭ ‬البسطامي‭ ‬القائل‭: ‬عرفت‭ ‬الله‭ ‬بالله‭ ‬وعرفت‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬الله‭ ‬بنور‭ ‬الله‭.. ‬ويرددون‭ ‬في‭ ‬أعماقهم‭ ‬قول‭ ‬الشاب‭ ‬الظريف‭:‬
‏لا‭ ‬تُخفِ‭ ‬ما‭ ‬صَنَعَتْ‭ ‬بكَ‭ ‬الأَشواقُ
‏واشـرَحْ‭ ‬هــواكَ‭ ‬فكلّنا‭ ‬عُشَّــــاقُ
‏وعندما‭ ‬سُئِلَ‭ ‬أهل‭ ‬التصوف‭ ‬عن‭ ‬ترجمان‭ ‬هذه‭ ‬الأشواق‭ ‬قالوا‭: ‬إنها‭ ‬هيمان‭ ‬القلب‭ ‬إلى‭ ‬ذكر‭ ‬المحبوب‭. ‬فإذا‭ ‬غلبهم‭ ‬الحنين،‭ ‬وإذا‭ ‬داهمهم‭ ‬الوجدان،‭ ‬وقفز‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الضلوع،‭ ‬وانحنى‭ ‬العقل‭ ‬أمام‭ ‬جلال‭ ‬الشوق‭ ‬وعظمة‭ ‬الخلق،‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬الحبيب‭ ‬الذي‭ ‬إليه‭ ‬راجعون‭: ‬الله‭ ‬حي‭.. ‬هو‭ ‬الحي‭ ‬واجب‭ ‬الوجود‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الوجود‭.‬
‏ونحن‭ ‬أطفال،‭ ‬كنَّا‭ ‬نحشر‭ ‬أنفسنا‭ ‬بين‭ ‬الذاكرين‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬ينشد‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬بصوت‭ ‬شجيٍّ‭ ‬حزين‭: ‬أدِرْ‭ ‬ذِكْرَ‭ ‬مَنْ‭ ‬أهوى‭ ‬ولو‭ ‬بملام‭.. ‬فإذا‭ ‬دار‭ ‬الهوى‭ ‬دارت‭ ‬القلوب،‭ ‬ودارت‭ ‬العيون،‭ ‬ودارت‭ ‬الأكفُّ،‭ ‬ودارت‭ ‬الرؤوس‭ ‬بالإشارات‭ ‬وبالرموز‭ ‬في‭ ‬ملكوت‭ ‬الله‭ ‬الأعظم‭. ‬
‏ثم‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬كنَّا‭ ‬نرى‭ ‬ذلك‭ ‬العاشق‭ ‬يبكي‭.. ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬أبكاه؟‭ ‬إنه‭ ‬الندم‭ ‬على‭ ‬دنياه‭. ‬الندم‭ ‬على‭ ‬خطاياه‭. ‬الندم‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬كائن،‭ ‬وما‭ ‬سوف‭ ‬يكون‭.. ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬يوم،‭ ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬كله

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *