الاستطلاعات من أهم وسائل معرفة آراء الناس، وأحد آليات الإصلاح الديمقراطي
رغم كثرة الحديث عن الرأي العام العربي ورغم تعدد محاولات استغلاله وتوظيفه وادعاء الحديث باسمه، فإن الساحة العربية لم تشهد حوارا جادا ومتصلا وعلميا حول القضايا التي يثيرها الرأي العام، وإمكانية استطلاع آرائه ورصد وتحليل توجهاته، فضلا عن علاقته بعملية التحول الديمقراطي التي يجرى الحديث عنها بإلحاح هذه الأيام.
ويمكن القول بأن غياب المناخ الديمقراطي وانتهاك الحريات العامة في مجمل الأقطار العربية قد ضاعف من عمليات الخوف والحجر على مناقشة قضايا الرأي العام وإجراء استطلاعات منتظمة وعلمية وعلانية له في العالم العربي، كما ضاعف أيضا من عمليات التلاعب بالرأي العام لخدمة الحكومات العربية القائمة.
من هنا لم تتجاوز محاولات دراسة الرأي العام وقياسه في بعض الأقطار العربية -على اختلاف أنواعها ومجالاتها- مرحلة التجريب، حيث لم تتبلور تقاليد علمية أو مهنية متفق عليها بين الباحثين أو المشتغلين باستطلاعات الرأي والرأي العام.
“من المتوقع في المستقبل الانتقال من مرحلة التجريب إلى ممارسة استطلاعات الرأي العام، الأمر الذي قد يخلق مشكلات بحثية وإجرائية وأخلاقية خاصة مع عدم وجود اتحادات لتنظيم ممارسة تلك الاستطلاعات “ |
لذلك يبدو من الضروري في هذه المرحلة مناقشة مشروعية وأهمية قضايا الرأي العام خاصة استطلاعات الرأي العام، حيث يجري التبشير بعملية تحول ديمقراطي تواكبها إصلاحات اقتصادية واتجاه متسارع نحو الخصخصة ودعم القطاع الخاص، ومثل هذه التحولات تخلق حاجة موضوعية لبحوث السوق والتي تعتمد علي أنواع متعددة من استطلاعات آراء الجمهور.
من جانب آخر فإن بعض وسائل الإعلام الغربية والعربية، علاوة على مؤسسات دولية عديدة، بدأت بإجراء استطلاعات للرأي العام في عدة أقطار عربية، كما أجريت بشكل متكرر استطلاعات في كل من العراق وفلسطين.
كذلك انتشرت على نحو لافت للانتباه استطلاعات الرأي في مواقع الإنترنت العربية بل وفي بعض البرامج الإذاعية والتليفزيونية، ورغم عدم دقة هذه الاستطلاعات فإنها تخلق ضغوطا إضافية على احتكار الحكومات العربية لحق المنع أو الموافقة على إجراء استطلاعات الرأي العام أو توظيفها لخدمة سياساتها.
ومن المتوقع في المستقبل القريب أو المتوسط الانتقال من مرحلة التجريب إلى ممارسة استطلاعات الرأي العام، الأمر الذي قد يخلق مشكلات بحثية وإجرائية، بل وأخلاقية، خاصة مع عدم وجود روابط أو اتحادات لتنظيم ممارسة استطلاعات الرأي العام تستطيع أن تضع قواعد ومواثيق أخلاقية للممارسة المهنية.
ومن هنا تأتي ضرورة مناقشة الإشكاليات النظرية والعملية التي ترتبط باستطلاعات الرأي العام في العالم العربي واستخداماته، ولعل أهمها مفهوم الرأي العام العربي، وأدوات وأساليب قياسه على المستويين القطري والقومي، والقواعد والمواثيق المهنية والأخلاقية التي يجب أن تنظم هذه الاستطلاعات، والعلاقة بين تلك الاستطلاعات وعملية التحول الديمقراطي في الوطن العربي.
“الرأي العام العربي أو الإسلامي العابر للحدود القطرية ليس حقيقة ثابتة، بل هو معطى متغير ويعتمد في مواقفه على تفاعل مواقف الرأي العام القطري، إضافة إلى الثوابت المشتركة التاريخية والثقافية” |
الإشكالية الأولى: تدور حول ماهية الرأي العام العربي، بمعنى هل سنناقش ونسعى لقياس الرأي العام العربي في مجمل الأقطار العربية أو ما يمكن وصفه بالرأي العام العابر للحدود القطرية، أم إن مجال الاهتمام سيتركز على الرأي العام الوطني أو القطري، أي الرأي العام كما يتشكل ويتفاعل في كل دولة عربية على حدة تجاه قضايا قطرية أو قضايا عربية ذات بعد قومي عربي؟ وهل يجوز القول بأن مجموع مواقف الرأي العام في أغلب الدول العربية يعبر عن ما يمكن وصفه بالرأي العام العربي؟
إن ماهية الرأي العام العربي وحدوده وهل هو موجود أم إنه تجميع لمواقف الرأي العام القطري، هي قضية إشكالية، خاصة وأن الرأي العام العربي بالمعني العابر للحدود القطرية قد توفرت له عناصر دعم عديدة بفضل القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت والشعور العام بالتحدي وعدم القدرة على مواجهة إسرائيل والتدخل الأميركي في المنطقة، ومع ذلك فقد انقسم الرأي العام العربي على نفسه بحدة في كثير من المواقف، ومنها على سبيل المثال الاحتلال العراقي للكويت والمواقف من الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت، ثم تكرر الانقسام وبصورة أقل حدة إزاء غزو العراق، ويبدو أن الانقسام الحاد يعود من جديد بين فئات الرأي العام حول الدور الأميركي في فرض الإصلاح السياسي في الدول العربية.
وانطلقت معظم كتابات الرأي العام من منظور وطني أو قطري، أي أن الدولة الوطنية هي المجال الطبيعي لتشكيل الرأي العام وتأثيره، كما ظهرت اجتهادات عديدة حول ما عرف بالرأي العام الإقليمي الذي يعبر عن أوضاع منطقة جغرافية ثقافية تجمع عدة دول لكن توجد بينها مشتركات تاريخية وثقافية.
كذلك ظهر مفهوم للرأي العام العالمي، وقد اعتبر الباحثون أن الرأي العام الإقليمي هو حاصل جمع للرأي العام في الدول التي تشكل الإقليم، من هنا اعتبر الرأي العام العربي في كثير من الدراسات رأيا عاما إقليميا. لكن مثل هذا الرأي يقابل برفض عنيف من قبل القوميين العرب الذين ينظرون إلى الشعوب العربية كأمة واحدة، ومن ثم يميلون إلى الحديث عن رأي عام عربي واحد يتجاوز في تكوينه وتأثيره الحدود القطرية المصطنعة على حد قولهم. والمدهش أن ممثلي تيار الإسلام السياسي يلتقون مع القوميين في رفض الإطار القطري أو الوطني لتشكيل الرأي العام لكنهم يرفضون بعنف الإطار القومي ويتطلعون إلى الإطار الإسلامي الأحب وينطلقون من مقولة الأمة الإسلامية ومن ثم يتحدثون عن رأي عام إسلامي.
وبدون الدخول في تفاصيل نظرية ومنهجية يمكن القول بأن الرأي العام العربي أو الرأي العام الإسلامي العابر للحدود القطرية ليس حقيقة ثابتة، بل هو معطي متغير ويعتمد في مواقفه على تفاعل مواقف الرأي العام القطري في كل قطر على حدة، بالإضافة إلى الثوابت المشتركة التاريخية والثقافية، أي أنه حاصل تفاعل لمجموع مواقف الرأي العام القطري، وقد تختلف -بل لابد وأن تختلف- مواقف الرأي العام في الأقطار المكونة لكل من الرأيين العام العربي والإسلامي، وبالمثل قد يحدث نفس الاتفاق أو الاختلاف بين الرأي العام العربي والإسلامي، وذلك رغم التنوع والثراء الاثني والثقافي بين أجزاء العالم الإسلامي.
الديمقراطية واستطلاعات الرأي العام
الإشكالية الثانية: تدور حول العلاقة بين الديمقراطية والرأي العام وقياساته في الوطن العربي، حيث يذهب البعض إلى ادعاء أن عدم وجود ديمقراطية في أغلب الدول العربية وغياب الحريات العامة يحول دون تشكل رأي عام حر، كما يمنع المواطنين من التعبير الحر عن آرائهم دون خوف أو بطش من السلطة، ومن ثم يدعو أصحاب هذا الرأي إلى تأجيل إجراء استطلاعات الرأي العام لحين تحقق الحد الأدنى من الإصلاحات الديمقراطية.
ولاشك في قوة منطق أصحاب هذه الدعوة لكنها تتحول أحيانا إلى قضية حق يراد به باطل، فمن الصحيح أن أدبيات الرأي العام قد أكدت ضرورة توفر المعلومات والنقاش العام حول المسألة أو القضية موضوع الرأي العام، كما اشترطت أيضا السماح لكل الآراء بالتعبير عن نفسها بحرية، أي توافر مناخ ديمقراطي.
واستنادا إلى شرط الديمقراطية ذهب بعض الباحثين إلى عدم وجود رأي عام في الدول التي لا يتوافر فيها الحد الأدنى من الحقوق الديمقراطية، لكن يصعب الموافقة على مقولة عدم وجود رأي عام في دولة أو مجتمع ما، فرغم عدم وجود ديمقراطية وفي ظل مناخ القهر والاستبداد يتشكل وببطء في كثير من المواقف رأي عام كامن لا يستطيع التعبير علانية عن نفسه لكنه يظل قابعا تحت السطح ومؤثرا.
والمفارقة هنا أنه إذا كانت الديمقراطية شرطا لتشكيل وتفعيل الرأي العام فإن الرأي العام أيضا هو أحد أهم آليات الديمقراطية، أي أن الديمقراطية يمكن النظر إليها كسبب ونتيجة للرأي العام.
ومن ثم فإن قياس الرأي العام اعتمادا على إجراء استطلاعات دورية للرأي العام وإعلان نتائجها بوضوح وشفافية يدعم من المشاركة السياسية للمواطنين، ويمكن من خلاله معرفة آراء الناس وتفضيلاتهم في قضايا التحول الديمقراطي، وبالتالي فإن استطلاعات الرأي العام تعتبر أحد آليات الديمقراطية والتعبير عن الرأي العام وذلك رغم الانتقادات التي توجه لاستطلاعات الرأي العام
دقة استطلاعات الرأي العام
“يجب نزع القداسة والاحترام الزائد عن استطلاعات الرأي العام وعدم التعامل مع نتائجها كحقائق ثابتة أو مطلقة، فهي في التحليل الأخير نوع من القياس لمعارف وآراء الناس، وهي أمور متغيرة ونسبية ”
الضروري السماح بها في الدول العربية كأحد آليات الإصلاح الديمقراطي، وكوسيلة متفق عليها للتعرف على آراء المواطنين، غير أن الدعوة لها ورفض أي قيود إدارية أو سياسية على الحق في إجرائها يجب أن يترافق مع مجموعة من الشروط التي تسعى لحماية الرأي العام من الاستغلال والتوظيف السياسي، وتضمن أكبر قدر من الدقة والموضوعية في ممارسات عملية إجراء استطلاعات الرأي العام وإذاعة أو نشر نتائجها في وسائل الإعلام، ولعل من أهم هذه الشروط:
1- نزع القداسة والاحترام الزائد عن استطلاعات الرأي العام، أي عدم التعامل مع نتائج الاستطلاعات كحقائق ثابتة أو مطلقة، فهي في التحليل الأخير نوع من القياس لمعارف وآراء الناس، وهي أمور متغيرة ونسبية، صحيح أنه توجد ضوابط علمية وتقاليد متعارف عليها إلا أن كل تلك الممارسات تنتمي للعلوم الإنسانية التي تقدم حقائق نسبية ومتغيرة، ولاشك أن التغير والنسبية تتضاعف في حالة الرأي العام بالنظر إلى طبيعته المتقلبة والمركبة.
2- الاستفادة من مقولات المدرسة النقدية في دراسة الرأي العام والتي ترى أن استطلاعات الرأي العام هي أداة من أدوات السيطرة الاجتماعية والتوجيه للرأي العام وتزييفه، وذلك من خلال ادعاء أن الأغلبية تقول نعم أو تؤيد هذه السياسة وترفض سياسة أخرى، مما يؤدي إلى فرض الصمت على المخالفين لنتائج هذه الاستطلاعات على حسب ما أثبتته عالمة الاجتماع الألمانية إليزابيث نوبل نويمان، حيث خلصت إلى أن الفرد يميل إلى تشكيل رأيه حسب الرأي السائد في المجتمع أو بحسب ما تقول به استطلاعات الرأي العام والتي تروج لها وسائل الإعلام, كما ثبت أن الفرد يميل نحو تعديل وتكييف رأيه بحيث يتفق والرأي السائد حتى لا يشعر بالعزلة.
3- أن يبادر العلماء والباحثون العرب المهتمون بقضايا الرأي العام -وهم على قدر كبير من المعرفة والخبرة- إلى الاتفاق على تفعيل مجموعة من الأسس والقواعد والمواثيق الأخلاقية المنظمة لممارسة استطلاعات الرأي العام. وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة والتفاعل مع القواعد والمواثيق المتعارف عليها في أهم الروابط والجمعيات الأميركية والأوروبية والتي تضم المشتغلين بقياسات الرأي العام.
على أن يتم نقل هذه الخبرات بما يتفق والأوضاع العربية الثقافية والعلمية في مجال استطلاعات الرأي العام. ولعل أهم هذه القواعد الإفصاح عن الجهات الممولة للاستطلاعات، والإعلان عن أهدافها، والخطوات الإجرائية والمنهجية المتبعة، وحظر نشر نتائج الاستطلاع بطريقة انتقائية تساعد في عملية الاستغلال والتوظيف السياسي لنتائج الاستطلاع.
4- تشجيع فاعليات المجتمع المدني ومعاهد البحوث والجامعات العربية على ممارسة رقابة شعبية وعلمية على استطلاعات الرأي العام تتسم بأكبر قدر من الوضوح في النقاش والشفافية، وفي هذا الإطار يمكن التفكير في وضع شروط مجتمعية لإجراء استطلاعات الرأي العام في مقدمتها ضمان الإعلان والشفافية، بمعني عدم السماح بإجراء أي استطلاع للرأي العام يتسم بالسرية أو لا يسمح بنشر نتائجه، لأن الاستطلاعات السرية -وبعضها يجري حاليا في بعض الدول العربية- قد يفيد بعض أطراف المجتمع على حساب الأغلبية.
نهاية الاحتكار الحكومي
الإشكالية الرابعة : إن استمرار الاحتكار الحكومي العربي لتنظيم أو منع إجراء استطلاعات الرأي العام يتعارض مع محاولات الإصلاح السياسي من جهة، ولا يتفق مع المنطق ومع التطورات والفرص التي أتاحتها تكنولوجيا الاتصال والإنترنت وظهور استطلاعات الرأي العام الإلكترونية من جهة ثانية.
والإشكالية هنا أن بقاء الاحتكار الحكومي وأشكال الرقابة والمنع يفتح المجال لظهور أشكال غير دقيقة وأحيانا مشوهة لقياس الرأي العام العربي سواء على المستوي القُطري أو العربي، حيث تتنافس عدة جهات دولية ومراكز بحوث أميركية وأوروبية على إجراء استطلاعات للرأي العام في عدة دول عربية أو في دول معينة كالعراق والأراضي المحتلة.
“أصبحت الاستطلاعات من أهم وسائل معرفة آراء الناس، وأحد آليات الإصلاح الديمقراطي، وإذا كانت هناك بعض العيوب والانتقادات فإن تلك الانتقادات تختلف تماما عن مقولات المنع والتخويف التي تتبناها الحكومات العربية“ |
والمدهش أنه رغم المكانة العلمية المرموقة لبعض تلك الجهات فإن ظروف إجراء تلك الاستطلاعات ومصادر تمويلها ونتائجها جاءت متناقضة ولا تتفق مع القواعد العلمية والمهنية المتعارف عليها، وعلى سبيل المثال أجريت استطلاعات للرأي العام العراقي بعد أيام قليلة من سقوط نظام صدام حسين للتعرف على مواقفهم من هذا النظام، كما أجريت قياسات لآراء العراقيين في ظل عدم توافر الحد الأدنى من الاستقرار الأمني، وأظهرت بعض النتائج تأييدا غير منطقي لاستمرار الاحتلال.
علي مستوي ثان فإن ظهور وانتشار أشكال من استطلاعات الرأي الإلكترونية خاصة تلك التي تنتشر حاليا في مواقع الإنترنت العربية على اختلاف أنواعها لا تعكس غالبا الرأي العام، بل رأي أقلية نشطة سياسيا أو شرائح من الرأي العام العربي القادرة من الناحيتين المالية والتعليمية على استخدام الإنترنت.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأفراد النشطين سياسيا قد يؤثرون في نتائج هذه الاستطلاعات من خلال قيام كل منهم بالتصويت لأكثر من مرة، كذلك فإن بعض المواقع العربية والأجنبية تضع أسئلة غير كافية حيث تكتفي بسؤال واحد قد لا يكون كافيا، فضلا عن أن اختيار توقيت طرح السؤال وصياغته وأسلوب تحليله تظل طي الكتمان ولا يكشف عنها، ولا توجد أي رقابة أو ضوابط مهنية أو أخلاقية على إجراء هذه الاستطلاعات.
الإشكاليات الأربع السابقة تؤكد ضرورة الإسراع بمناقشة قضايا الرأي العام العربي وقياسه على أوسع نطاق، مع الانطلاق من مسلمة الإقرار بحرية إجراء استطلاعات الرأي العام، والتجاوز عن حالة الخوف المَرضي أو التخويف من مخاطر قياسات الرأي العام، ومن مخاطر التمويل الأجنبي وغيرها من المخاطر والأوهام الرائجة.
فقد أصبحت الاستطلاعات من أهم وسائل معرفة آراء الناس، وأحد آليات الإصلاح الديمقراطي، وإذا كانت هناك بعض العيوب والانتقادات لمنهجية الاستطلاعات ومدى دقتها وموضوعيتها، فإن تلك الانتقادات تختلف تماما عن مقولات المنع والتخويف التي تتبناها الحكومات العربية وبعض مثقفي السلطة في الوطن العربي.