يصف بودلير قصائده القصيرة بأنها ذات فنتازيات كأجزاء الأفعى ،نظراً لكونها قِطعاً يحاول إثبات استقلاليتها. وهذا يتيح الحديث عن إمكان تأليف القصيدة من (مقاطع) هي ليست فقرات مترابطة في عمود فقري، بل أجزاء مستقلة لكل منها بنيته الخاصة، لكنها تلتقي باستراتيجيات نصيَّة باتجاه هدف للشاعر.
في كتابة قصيدة النثر بدأ التخلص من الإيقاع المطوّل. و ظهر الإرتكاز على القطع أو المقاطع كما ترد في التصنيف الفني العربي. ولما كانت قصيدة النثر تعتمد كلِّية النص في بنائها ،فقد جرى التنازل عن العنونة كثيراً، والإكتفاء بالفواصل الطباعية بين مقطع وآخر، أو بالأرقام التي تمنح النص وجوداً مستقلاً ، ضمن وحدة كلّية يمكن للقارئ اكتشافها كمزاج شعري يسود تلك المقاطع، ضمن وحدة كتابية مفترضة.
صحيح ما يؤكده علماء القراءة ومنظّرو التلقي من أن العنوان هو أكثر موجّهات قراءة النص وأولها ..لكن الإستغناء عنه أحياناً يشكل رؤية مضافة إلى النص نفسه، لها قيمة في الكتابة كما هي في التلقي.
إن الإكتفاء بالمقاطع هو أحد كيفيات البناء الشكلي في قصيدة النثر .و ذك يخلق إيقاعاً داخلياً متشكلاً من سياقات تلك المقاطع وتنضيدها الخطّي ككتلة .وللأسف لا يحظى هذا بعناية شعراء قصيدة النثر غالباً.. ويدعم رأينا ما يراه جان كوهين من أن القصيدة يمكن أن تظل بلا عنوان؛ لأن الشعر لا يخضع لبناء أو ترابط منطقي وانسجام كما في النثر.. وفي ظني أن عدم التسمية أو إغفال العنونة يوجّه أيضاً عند القراءة إلى الكلية التي نصف بها قصيدة النثر.
وأحاول هنا التعريف بتجارب قد تلفت الإنتباه إلى إمكان الكتابة المقطعية كتنويع في بنى قصيدة النثر.

شذرات شعرية
في ترجمته لمختارات من شعر مالكولم دو شازال يشير الشاعر عدنان محسن إلى شذرات دوشاز الشعرية. وهي دون عناوين، جمعها في ديوانه (قصائد)الذي يعدّه (ذروة أعماله) حيث يحمل العنوان دلالةً على قصد الشاعر أن يجعلها قصائد لا قصيدة واحدة. رغم أنها تتميز بقِصَرها الشديد. وانتثارها السطري كلمةً كلمة ،أي كل كلمة في سطر مستقل .وكأنها تتشظى لتؤلف الشذرات الشعرية :
سيعرف
الروحَ
الحقة
الإنسانُ
الذي
لا
يلصق
بصورةٍ
أية َ
فكرة
وفي ترجمة الشاعر محمد عيد إبراهيم لقصائد من جورج باتاي بعنوان (ليلي عريي) نجد نصوصاً ترك الشاعر عنونتها، كما توجد قصائد قصيرة مكتوبة بالطريقة الشذرية ذاتها: أي توزيع النص كلمة كلمة تذكرنا بفقرات ظهر الأفعى التي تحدث عنها بودلير، ومنها:
أُرقِّد
إبرة
قلبي
فأصرخ
على كلمة
ضيعتها
أفتح
حافةَ
دمعةٍ
حيث فجر
الميت
عديم الكلام

مقاطع صلاح فائق
يواظب الشاعر صلاح فائق على نشر قصائد هي مقطّعات أو أجزاء غير معنونة لا يجمعها إلا كلّية وجودها في مناخ تجربته ذاتها. قصائد تتنضد باستقلال لا يخفي كليتها تلك ..بنائياً تستجيب لإيقاع مكان نشرها حالياً في صفحته على الفيس بوك، فالواسطة التواصلية تساعد كثيراً في تطوير وتجذير هذا النوع المكثف من القصائد. لكنه في الواقع كتب مثلها في دواوينه السابقة. وهي تتكون من فقرات يفصل بينها بياض كافٍ لأن يشعر القارئ أنه انتقل إلى مقطع جديد. تطالعنا كلها بلا عناوين لكن مناخها اللغوي والإيقاعي واحد. وفيها سمات قصائده فنياً ، كالإرتكاز البنائي على الجملة الشعرية ، والتسلسل السردي المعتمد على أنا الشاعر سارداً مراقباً أو ضمنياً أحياناً. والمفاجأة في استدارة القصيدة وانزياح دلالتها بتوظيف الخيال الذي يفيض في قصائد صلاح حتى يغدو ذا شكل غرائبي، لا في البناء بل في الصور والإستعارات اللغوية التي ينبني منها النص. ولعل الملمح البنائي الأكثر تردداً هو استخدام الشاعر للنكرات والعطف عليها بطريقة خاصة تمنحها شعريتها.
إن شاعراً ذا تجربة طويلة ومؤصلة مثله يمكن تمييز أسلوبه وتأشير سماته. وقد اتخذ في أعماله السابقة الطريقة ذاتها. نشهدها في ديوان مثل(مقاطع يومية) و(رهائن) ودواوينه الثلاثة اللاحقة التي نشرها في الفليبين : (كتابة) 2018،(أحوال) 2018، (إنسولين) 2019. فتحت عنوان(إنسولين) نقرأ (قصائد)، و(أحوال) مجموعة شعرية- يخالجني شك إزاء التصنيف لإنحياز صلاح للقصيدة لا للشعر بمعناه التراكمي الموصوف، و(كتابة) وضع تحت عنوانها في الصفحة الداخلية الاولى عنواناً ثانياً توضيحياً مطولا(محاولات للعثور على الشعر والشعرية في الحياة اليومية، الذاكرة والنشاطات الغامضة والغريبة والمريبة، لكن المبهجة، للمخيال ). وهو تلخيص طيب لأبرز مرامي تلك النصوص المقطعية.
والملاحظ أن عناوين كتبه الشعرية مختصرة مضغوطة غالباً في كلمة واحدة. أما القصائد فهي بلا عناوين ، ومقسمة إلى مقاطع ذات أرقام في ( إنسولين ) و(أحوال). أما في( كتابة) فثمة خمسة عشر مقطعاً مرقماً ، لكنَّ كلاً منها مقسم بدوره إلى مقاطع تفصل بينها نجيمة صغيرة للتذكير بانتهاء مقطع وبداية آخر.

يتنازل صلاح فائق Salah Faik عن غزارة الشعر وانثياله النغمي والمضموني وتداعياته الطويلة. ويؤكد الفصل بين الشعر والقصيدة الذي أشرنا إليه في الخميس السابق . ويذكرنا بتفريق أكتافيو باث بين الشعر كجنس والقصيدة كوحدة أو مفردة تعمل على تعديل قوانين الشعر نصياً.
يقول صلاح فائق في (أحوال):
( ليس مهماً أن تكتب شعراً
عليك أن تكتب القصيدة.
في الشعر ثرثرة كثيرة.)
وهذه الفكرة بحاجة للتأمل لأنها تؤكد الخروج على غنائيات الشعر المكرّسة والإيقاعات المعهودة، والرهان على القصيدة التي تختط لنفسها طريقاً ولا تشارك سواها فيه.
مقاطع صلاح فائق أمثولة لكيفية ممكنة في كتابة قصيدة نثر متجددة ،لا تمتثل لنموذج جاهز وتبني عليه. مقاطع تائهة في الصفحات بحريّة ، تبحث عن حبل سرّي يربطها بسواها من قصائد ولدت في رحم القصيدة الأكبر وهي تولد كل مرة .هي مقاطع واضحة وفيها متعة المخيال الحر الذي يسيطر على رؤية صلاح فائق الشعرية. لكن ( في تلك المقاطع زلازل صغيرة / تخرج من يدي التي تكتب..) كما يقول.. وتصل حتماً إلى قراءتنا لتنقلنا إلى وقعها ودويها الذي يُرى ولا يُسمع.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *