كانت قد بدت عليّ عوارض الإنفصام. هكذا صارحني أبي.
ووافقَته، في حالةٍ نادرة وإستثنائية، أمي.
“ما رأيك لو ذهبتَ إلى السايكوثيرابيست بلال؟ هو يقطن قربنا في المنطقة، ويُقال إنه أمهر مَن فَرْمَلَ ….”.
” فرمَلَ؟”، أقاطعه.
” نعم. وكنت سأكمل الجملةِ لو لم تقاطعني. كنتُ سأقول. هو أمهر مَن فرمَلَ شطحات الدماغ”.
” شطحات؟”.
لكزني بيده كي يشدّ من أزري : ” يا جبران. أتريدني أن أكذب عليك؟ نحن، أقصد نحنُ من حولك، كنا نلاحظ طوال المدة السابقة، منذ سنتين تقريباً، أنك صرتَ دائم التكلّم مع نفسك. تتشاجر معها. تؤنبها. تعاتبها…”.
أقاطعه مرة أخرى: ” كل إنسان يتشاجر ويتكلم مع نفسه يا أبي”.
يأخذ نفساً عميقاً. كأنه يتقصّد، بالشهيقِ المديد، أن يمنع كفِّه الأيمن من الإنقضاض على خدّي.
يرمقني بنظرةِ الآسفين ويسرد: ” يا جبران. كلنا نتحدّث مع أنفسنا. نعم. لكن ليس لدرجةِ أن نجلس على الجهة اليسرى من المائدة مثلاً، أمام صحن الطبق الشهي الذي أمامنا، ثم نحمل الشوكة والسكين كي نتناول الطعام، ثم نعدل عن ذلك فجأةً، ثم نركن الشوكة والسكين جانباً، ثم نقف، نحمل الصحن، ثم نقدمه للشخص الذي على الجهة اليمنى من الطاولة، قائلين له :
“تفضّل. كُل أنتَ. فأنا لستُ جائعاً””.
” وما الضرر في ذلك؟ وهل غريب أن تقدم صحنك لشخصٍ آخر؟
هذه إنسانية يا أبي. وأنت وأمي من علّمني على ذلك”، أجيبه بعتبٍ ظاهرٍ.
يبلع أبي ريقه، متمنياً لو أبلعني الصحن والطاولة التي تحته :
” يا بُنى. نعم. ليس غريباً أن تقدم صحنك لشخصٍ آخر. لكن الغريب، كل الغرابة، أن تكون أنت هو الشخص الآخر”.
” كيف؟ ماذا؟ “، سألته وإشارات الإستفهام تئزُّ كالذباب حول رأسي.
يقترب مني أكثر ويسألني متعجِّباً : ” ألا تتذكّر شيئاً من هذا؟”.
أجيبه بكل صدقٍ: ” لا يا أبي. لا أتذكّر. ربما كنتُ ألعب وألهو مع نفسي. كما يفعل جميع الأطفال الصغار. أصنعُ بخيالي صديقاً أمامي، أحدّثه وأناوله الصحن. ما الجديد في ذلك؟ ليس هذا بجديد”.
عبس في وجهي واحتد في كلامه : ” عمرك ستة وعشرون ربيعاً يا جبران!”.
قفزتُ من مقعدي محتجاً : ” جبران؟ مَن جبران؟ لماذا تناديني جبران؟”.
” مَن جبران؟! أنت جبران!”، يصفعني بصوته الجهوري.
” لا. أنا لستُ جبران!”، أردُّ له الصفعة.
يكتم أبي إحمرار خديه وازرقاق عروقه. يكزّ على أسنانه. يحاول طحنها. ثم يصرخ: ” إذن من أنتَ أخبرني؟”.
” أنا أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي من البصرة!”، أزعق بأبي.
” نعم؟!!!”، يزعق هو بدوره.
أركّبُ “أمبليفاير” لحبالي الصوتية وأصرخ صرخةً اهتزّت على أثرها رُكبُ البيت وارتجفت : ” إعترف. قُرّ. ماذا قال لك المأمون؟”.
” مأمون؟!”، يكوِّر حاجبيه. ثم يقطن : ” آه … تقصد زميلي في العمل مأمون ضومِط؟”.
“لا. أقصد الخليفة أبو العباس عبد الله المأمون ابن الرشيد”، أجيبه بغضبٍ كبيرٍ.
” نعم؟!!”، يقفز أبي من مكانه.
أزجره وأحتجُّ : ” ما بك أبي؟ أنت والي الكوفة ولا تعرف من هو المأمون؟”.
” والي الكوفة؟!”.
يتملكني الغضبُ والكربُ. يحملانني من ياقة قميصي ويجرجرانني إلى غرفتي.
أدخل دورة المياه . أقف أمام المرآة. أرمقها.
يرمقني وجه أبو يوسف يعقوب بن أسحق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشاع بن قيس الكندي.
أأسألني والشرر يتطاير من خشمي: ” ما به أبوك والي الكوفة؟ أأصاب عقله الزكام؟”.
وأضربُ بقبضتي المرآة وأكسّرها. ويتناثر الزجاج على الأرض، مثل حروفي في المنطق والعلم والفلسفة. حروفي التي نبذوها.
أخرج من الحمّام لأصطجع في السرير. أرى رجلين يقتربان مني. أرى خلفهما أبي.
يسحبني الرجلان بقوةٍ إلى السيارة التي أمام البيت.
أحاول الصمود في مكاني دون جدوى. أصرخ بهما وبأبي :
” أنتم لا تعرفون مع من تتعاملون. سوف أنتقم منك جميعاً”.
” ومع من نتعامل؟”، يجبني أحده الرجلين.
” أنا فريدريك بارباروسا الأول ، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية، ابن جوديت بن هنري التاسع، وسأنتقم منكم أيها الشرقيين”.
لطم أبي خدّه بكفّه وصوّب عيناه في الأرضِ صامتاً.
وضعوني في السيارة مقيّداً بالحبال. وساقوني إلى شارع الحكمة حتى وصلنا للبناية التي فيها عيادة “السايكوثيرابيست” بلال.
حملوني إلى عيادته. استأذنوا موظفة الإستقبال، التي يبدو أنها كانت تنتظرهم.
أدخلوني إلى عيادة السايكوثيرابِست وطرحوني على الأريكة.
رمقتني الشهادات التي على الجدار. كشّرت في وجهي كأنها لم تستلطف وجودي.
تنحنحتُ. وبعد عدة نحنحاتٍ، خرج السايكوثيرابِست بلال من جحره واقترب مني.
جلس خلف مكتبه دون أن يحدّق بي.
أزعني قلة اكتراثه.
تنحنحتُ مجدداً وقلتُ له : ” السلام عليكم”.
أجابني، ونظراته في الكتابِ أمامه : ” ما رأيك لو بدأت بالطقطق؟”.
” طقطق؟ ماذا تقصد؟”، قلتُ له.
” أقصد حدّثني عنك. من أنت. من تكون. ماذا تحب. ماذا تكره. ماذا تفعل.
متى تستفيق. متى تنام. بماذا تحلم في المنام. ماذا تتناول من حبوبٍ طبية وطعام. أتكتئب؟ أيصيبك الأرق؟ كم مرةٍ تستفيق في الليل وتخلع عن جسدك الحِرام؟”.
تنحنتُ مجدداً. وبدأتُ :
” أنا القديسة دميانة و ……”.
قاطعني الطبيب زاجراً : ” أرجوك كفى! كفى! لقد قال لي أبوك كل شيء”.
أجبته بتهذيبٍ ترقُّ أمامه ساحة ستالينغراد : ” أرجوك أخي دعني أكمل كلامي. الحاكم الروماني دقلديانوس اضطهد أبي وأعاده بالقوة إلى الوثنية. و ….. “.
خرجتْ النار من أذني الطبيب. تمالك نفسه وقال : ” أرجوكِ أخت دميانة. أقصد أرجوك يا جبران. أسكت ودعني أتكلم”.
سكتتُ أنا … الأخت دميانة.
أكمل السايكوثِيرابست بلال كلامه : ” أنت يا جبران حائر. لا تعرف إن كنتَ من الشرق أو من الغرب. ساحة تكون الكندي، وساعة بارباروسا، وساعة الأخت دميانة. أتعرف من أنت؟ أو بالأحرى، ماذا أنت؟ أنت مثل تلك الحشرةٍ التي أشرعوا لها الشباكُ من جهة الشرق، لكنها، وبعنادٍ غبيِّ، أصرت أن تفجّم رأسها بالجدار الذي من جهة الغرب”.
أقاطعه بتهذيب: ” لكن يا دكتور أنا لستُ …..”.
حاولت أن أجيبه بأنني لستُ جبران ، لكنه قاطعني، بمقاطعة تفوق حصار الأميركيين على لبنان، وضرب بقبضته المكتب أمامه وزأر:
” قلتُ لك أصمت. أصمت يا بلال!”.
انتصبتُ على الأريكة المسطّحة : ” بلال؟! أنت بلال وليس أنا”
وبسرعةِ تفوق سرعة الضوء، على عكس ما توقع أينشتاين، انتصبَ كالصاروخ الفضائي المنطلق أمامي، فطارت نظارته الطبية. واصطدمت بسقف الغرفة، ولحسن حظه، وحظي، سقطت في جيب روبه الأبيض وكأن شيئاً لم يكن.
لم ينتبه للذي حصل، وأكمل أفراغ بأحشائي كلامه :
” أنا ستُ بلال. أنا أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، موسيقي ومطرب عذب الصوت من بلاد الرافدين من العصر العباسي. وأنا الذي غنيتُ للخليفة هارون الرشيد:
(يا أيها الملك الميمون طائره هارون راح إليك الناس وابتكروا)”.
وراح السايكوثرابست بلال يغني، ويعزف على وترٍ خفيٍ بين يديه، ويدندن بصوته الذي يشبه احتكاك الطبشورة بالصبورة.
وقفتُ أنا على قدميّ المتعبتين من النعيق، وهربت من المكتب.
ولحسن حظي، كان الرجلان الملفان بشمطي إلى هنا، وشمط أذني عند اللزوم، نائمين. أو بالأحرى، مغمى عليهم بعد سماعهم صوت البلبل بلال وهو يغني.
ركضتُ نحو الدرج، قافزاً فوق أرقام الطوابق مثل عدائي الأولمبياد.
وهناك في الطابق الأرضي، وأمام باحة المدخل، رأيت كهلاً يتعكّز على الرصيف.
يغطّي جسده بلحيته الكثّة الشائبة البيضاء.
مِن سحنته وثيابه، يبدو أنه معدم الحال.
وكان يحمل بيده اليمنى صحناً بلاستيكياً فيه بقايا طعام. وفي يسراه ورقة مبتلة يبدو أن عليها بقايا سندويش مرمي.
سألته : “يا عَم. ماذا تأكل؟”.
أجابني بشفتيه اللتين مضغتهما الأيام حتى اهترأتا : ” كنتُ أبحث يا إبني في برميل النفايات عن ما تيسرّ من فتاتٍ طعامٍ أسد به جوعي الكافِر”.
كلامه المؤلم ، كمقص الأظافر، راح يقضم الدمع من عيني ويرميها على الأرض. حزنتُ لحالته. لمنظره. حزنتُ لحزنه.
اتكأت على الجدار خلفي وجلستُ إلى جانبه.
سألته: ” من إسمك يا عم وأين تسكن”.
لحس بلسانه الورقة مراراً وتكراراً ، محاولاً رشف بقايا ما عليها.
ثم، بشفنيه المرتجفتين، راح يلحس أيضاً بقايا الطعام على أصابعه.
ولّما لم يتبقّ ذرّةَ طعامٍ في أصابعه وفي الصحن البلاستيكي، ولفة الساندويش،
حدّق بي، بعينيه المتلألئتين بالدموع، وأجابني : ” أعيش في وادي الطحالب يا إبني”.
” وادي الطحالب؟ لم أسمع بها. وما إسمك يا عم؟”، سألته.
حدق في الأرضِ. أغمض عينيه وأجهش: ” أنا…. أنا جبال الصوّان”.