جميلة طفلة تجاوزت العقد الأول من عمرها بقليل ،طفلة عيناها واسعتان ولها ظفيرة متدلية على كتفها الايمن تعيش مع عائلتها في قرية غافية على ضفاف دجلة وهي اكبر الأطفال في أسرتها والدها معلم في مدرسة ابتدائية في نفس القرية ما أن تقع عليه عيناك حتى ينبئك شكله الهزيل وهندامه ونظاراته السميكة بحجم تأثير الحصار الإقتصادي الظالم وكأنه نسخة أصلية  لغالبية العراقيين الذين انهكتهم سنوات الحصار الطويلة، وقد حفر العوز والفاقه بأزميله لوحة البؤس المضني على وجهه وهيكله العظمي واضطر تحت وطأة الظروف القاسية أن يستأجر قطعة أرض زراعية على ضفاف النهر ليجرب حظه العاثر في زراعتها بالخضراوات عسى أن يدر عليه الحاصل ببضع وريقات مطبوعة في مطابع الحكومة من رولات ورق الجرائد وقد وسمها البنك المركزي بصور من حضارات العراق الخالدة عسى أن يكون هذا الدخل الإضافي عونا لعائلته في معيشتها .ولولا بضع دجاجات تضع بيضات كل صباح في المنزل لما عرفوا طعم البيض لأن مجموع ما يتقاضاه من أجر نظير خدمته في الأسرة التعليمية والتي تربو على ربع قرن لايكاد يكفي لشراء طبقة بيض  واحدة في الشهر .

تقوم الطفلة البريئة جميلة بحمل طعام الغداء البسيط في سلة لوالدها الذي يعمل في الحقل وتتهادى بخطواتها الوئيدة بمحاذاة النهر تمشي جميلة الهوينا والطريق طويل ونهر دجلة لاينتهي مسيره تقفز جميلة احيانا من تلك الربوة إلى أخرى وظفيرتها كحركة البندول تتراقص على كتفيها جيئة وذهابا ونسمات دجلة العليلة تداعب خديها وهي تشدو وتترنم بأغنية شعبية ( عالميمر وعالميمر وعالميممر بيض النواهي على سميجة حدر ) الطريق طويل رفعت جميلة رأسها الى السماء مستعلمة عن قرص الشمس لم يزل الوقت مبكرا على صلاة الظهر ولا ضير إذ ما استلقت بضع دقائق بين الحشائش تريح قدميها المتعبتين وخصوصا إنها منذ صلاة الفجر مستيقظة تساعد أمها في أمور المنزل ، غفت عينا جميلة الناعستين وأبحرت في حلمها عندما تتخرج من المدرسة وتصبح معلمة ترتدي الكعب العالي وتضع حقيبة نسائية على كتفها وعند دخولها الصف لاتنسى ان تحمل العصا بيدها لتؤدب التلاميذ المشاغبين.

وفجأة سرت رعشة في جسدها كأن صاعقة وبرق اطبق عليها في نفس اللحظة مجموعة من الضباع البشرية تحيط بها من كل جانب وقد سال لعابهم القذر من أفواههم النتنة مجموعة من ارذل خلق الله تم تكميمها والاعتداء عليها تباعا وجميلة المسكينة لاتعلم مايحدث لها إلا بعد أن انصرفت الضباع والدماء تسيل على رجليها أطبقت السماء على صدرها وتحجرت الدموع في مقلتيها وذهب صوتها قامت الطفلة تلملم شعثها وتناولت سلة الغداء وهمت برمي نفسها في النهر لأن دجلة طالما ابتلع المظلومين والمعذبين خانتها قواها وقادتها قدميها الى الحقل حيث يعمل والدها رمت سلة الغداء جانب الساقية التي يجلس قربها والدها كل يوم دون أن تلتقي به وعادت راجعة ولكن هذه المرة سلكت الطريق المبلط حيث تمر السيارات عسى أن تدهسها عجلة مسرعة وتريحها من هذا العذاب لم تمضي سوى أيام قليلة حتى جاء عمها وسحبها من يدها فأنصاعت كالبهيمة المساقه الى موقع الذبح ورأسها مطأطأ وعمها لايقوى على النظر الى وجه جميلة بخطى مسرعة وصل العم مع جميلة الى حافة النهر وقفت جميلة بمواجهة دجلة ورأسها بالأرض تراجع العم بضع خطوات واغمض عينيه واستدار بوجهه قليلا وأطلق من مسدسه كل ماكان في جعبة المسدس من رصاص أصابت إحدى الطلقات رأس جميلة المسكينة وهوت على الأرض بلا حراك جثى العم على ركبتيه وانفجر بنوبة بكاء هستيري وهو يصيح برعاية الله وحفظه ياجميلة والله وغلاوتك مابيدي حيلة الله يلعن الذين ظلموك ،.

نهض وأعاد حشو مسدسه مرة ثانية وأطلق كل رصاصاته في الهواء واجتمع اهل القرية ليرفعوا جميلة ويواروها الثرى، ظلمت الطفلة من قبل الضباع السفلة وظلمها أهلها وظلمتها الاعراف والسماء صامته ذبحت جميلة وذبحت معها أحلامها، ياجميلة انت اطهر من قطرات الندى ، ياجميلة من سيؤدب المشاغيين من بعدك عندما تصبحين معلمة وعتبي على دجلة لماذا لم تأخذها بأمواجك وتسترها وتلفها بحنان أم انت يانهر لا تلتهم إلا جثث مقطوعة الرأس أو في رأس كل جثة رصاصة  يانهر انت مستودع لكل المظلومين لماذا لم تأخذ جميلة معك ، لعنة الله على كل الظالمين ورحم الله كل المظلومين .

 

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *