عادت صبيحة من العمل منهكة مُثقلة الرأس بثرثرة زميلاتها وزملائها بالشركة. ألقت محفظتها على الكنبة …ضغطت على زرّ التلفاز واتجهت نحو المطبخ…فتحت الثلاجة بحثا عن عصير….تخلصت من ملابسها….دخلت بيت الحمام واستسلمت للماء يخلّص جسدها من ثقل يوم قائظ، متعِب ومملّ…
استلقت على الكنبة…لفّها الصمت رغم ضوضاء التلفاز…هذا الصمت الذي ما انفك يتوالد بالمكان منذ انفصالها عن سامي.
لم تكن ترغب في الطلاق وكم مرة رجَته أن يعود الطبيبَ ويُجري بعض الفحوص والتحاليل ،كما فعلت هي، علّ العلم يجد لهما حلاّ وينعما بالانجاب، لكنّ كبرياءه كانت أكبر…
عبرت ذهنَها دعوةُ أمها تحثّها على ترك البيت والعودة إلى”دار بوها ” تفاديا للقيل والقال….أن تبقى إمرأة مطلّقة وحيدة بالبيت فذلك أمر مستهجن ومدعاة للشك والريبة….
لم تكن صبيحة تعير اهتماما لما يقال عنها فالحياة حياتها وهي المسؤولة الوحيدة عنها ولا يحقّ لأحد أن يملي عليها طريقة عيشها….هي لن تترك بيتها، هذا البيت الذي يتنفّس أسرارها وذكرياتها……..هي تحبّ هذا البيت ولن تستطيع العيش في مكان آخر خارج ذكرياتها….ولعلّ هذا البيت يقرّبها من سامي رغم الغياب….ولعلّها ما زالت تحبّه…
أشعلت سيجارة وهي تتصفّح ألبوم الصور بفائض من الحنين وكلّما مرّت بصورة لها مع سامي استحضرت بعض حواراتهما وبعضا من كلماته العذبة التي كانت تذيبها حبّا…
رنّ هاتفها…. نظرت إلى الشاشة….. تسارع نبضها…ضغطت على زرّ القبول دون أن تشعر….
ارتدت ملابسها على عجل… أخذت محفظتها وغادرت البيت مسرعة…. ارتبكت حين أدركت ،وهي في طريقها إلى المطعم، أنّها لم تتزيّن، لكنّها هدأت وغمرها ارتياح كبير عندما تذكّرت أنّ سامي كان يفضّل أن يراها كما هي، على طبيعتها، دون مساحيق…. دون بهرج…
قادها النادل إلى الطاولة التي حجزها سامي. قال وهو يستدعيها للجلوس:
– هذا هو المكان المفضّل للسيد سامي كلّما أتى إلى هنا…
شعرت بعزّة وفخر حدّ الانتشاء….في هذا الركن من المطعم وحول هذه الطاولة بالذات كان لهما أوّل عشاء…حبست في عينيها دمعة…سرت في جسدها دغدغة…: “ما زال يحبّني”….سيضمّها إليه حتى تفيض حبّا بين أحضانه…. سيحدّثها عن ندمه وعن شوقه إليها وستحدثه عن آلامها وعن وحدتها وانتظارها له….
انتظرته…لم يأت….حاولت الاتصال به…لم يردّ…داهمها شكّ في نواياه…
غادرت المطعم منكسرة خائبة، وعندما وصلت إلى العمارة حيث شقّتها رأت جمعا غفيرا…كان رجال المطافئ يوجّهون خراطيم المياه إلى أعلى …رفعت عينيها…كان الدخان يتسرّب من شرفة شقّتها…تذكّرت ألبوم الصور والسيجارة التي لم تطفئها عند خروجها من البيت….
في الصباح خاطبتها راضية أخت سامي قالت بصوت باكٍ :
– سامي مات البارحة في ” براكاج “….تلقّى ….
أحسّت بدوار…..سقط الهاتف من يدها…..انهارت…