تشير الايات القرانية والدراسات الأنثروبولوجية و بقايا المجتمعات المبكرة التي مازالت موجودة الى الان، الى ان الانسان خُلق حرا. وكانت دعوات الانبياء المبكرين قائمة على افتراض ان الانسان حرٌ، وانه يتمتع بحرية الاختيار. وتشير الاية الكريمة الى هذه الحقيقة بوضوح:”قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا؛ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”، او قوله تعالى:”إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا”. واذا كان الانسان اجتماعيا بالطبع او بالفطرة، فان الاجتماع الانساني الاول يقوم على اساس الحرية اولا، والمساواة في المركز القانوني، والايثار، والجنس (تكوين العائلة). وعلى هذا الاساس كانت الانسانية امة واحدة، وهي الوحدة التي يشير اليها القران بقوله:”كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً”، وهي الوحدة التي ما فتيء القران يذكر الناس بها، كما في قوله:”إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”. ويعلق العلامة الطباطبائي على هذه الاية بقوله:”فالبشر ليس إلا أمة واحدة”، وذكر ان “المراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد” ، و المعنى: “أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر و هي أمة واحدة”. وهذا هو مجتمع الفطرة الذي يذكره القران بقوله:”فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.
وبعد الاقرار بالحرية، فان الانسان حرٌ في ان يعتقد ما يشاء. وسوف يكون لكل اعتقاد يتبناه الانسان اثر على نفسه وحياته مطابق لنوعه. بعض الاعتقادات تجلب الخير للانسان، وبعضها على العكس من ذلك. وهذا ما اوضحه القران في ايات متقابلات. ففي النوع الاول نقرأ قوله تعالى: “وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا”. وفي النوع الثاني نقرأ قوله تعالى:”وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ”.
وبحسب الرؤية القرانية، فان التوحيد هو الضامن لهذه الوحدة، بينما يؤدي الشرك الى تمزيقها. ولهذا ركزت الدعوات النبوية الاولى على التوحيد بعد ان ظهرت في المجتمعات الانسانية الفطرية ميول الى الشرك، بتصور الهة اخرى من دون الله او الى جنب الله، وكان اشد انواع الشرك هو القبول بالوهية بعض الافراد الماسكين بزمام السلطة، والذين ادعوا الالوهية او الربوبية لتعزيز سلطتهم على الناس مثل فرعون الذي قال للناس:”أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ”. وقد حدثنا التاريخ القديم عن حكام ادعوا الالوهية في دول وادي الرافدين، والامبراطورية الرومانية. وفي العصور الحديث فرض بعض الحكام العلمانيين على الناس عبادتهم شخصيا، كما فعل كيم ايل سونغ في كوريا الشمالية، وصدام حسين في العراق. والملاحظ ان الناس قد يتقبلون العبودية لبشر مثلهم، لاسباب مختلفة يجمعها ضعف تمسكهم بالحرية، او نسيانهم لها. لذلك يكون من المهم بمكان ان ينشأ الانسان محبا لحريته، متمسكا بها، رافضا التنازل عنها. لهذا اقول ان الانسان حر في ان يعتقد ما يشاء، بشرط الا يؤدي اعتقاده الى مصادرة حريته. وهذا هو جوهر الشرك الذي قال عنه القران ان الله لا يغفره:”إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا”. ان التنازل عن الحرية هو الافتراء العظيم الذي يؤدي الى فساد المجتمعات وخرابها. وهذا ما يتحدث عنه القران برمزية ذات كثافة عالية بقوله:”وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ”، وتكون النتيجة فشل المجتمع:”وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.
الرسالة التي اريد ايصالها للقراء هي ان الحرية بداية طريق الاصلاح، وان التنازل عنها يؤدي الى الفساد:”وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ”- اعني صراط الحرية.