هي المرة الثالثة التي ألتقي فيها بالشاعر، بين لقاء وآخر حوالي عقد من السنين، ويتأكد لي رأيي الذي صار في أول وهلة جمعتنا؛ الهدوء الشديد الذي يبدو على الشاعر، والبركان الثائر الذي يحترق في داخله. كيف اجتمع هذان الضدّان في نفس واحدة؟
ثم يأتيك كلامه كأنما من مسافة بعيدة، فهو يتحدّث بصوت أقرب إلى الهمس، ولو نقشنا كلماته على يافطة ورفعناها، لخرج أهل الأرض والسماء في أول النهار ثائرين، ولا يعود أحد إلى بيته وإن جنّ المساء.
هل أدعوه إبراهيم الثائر؟
يعرف كلّ شيء في السياسة وفي الأدب والاقتصاد والاجتماع، ويستطيع أن يتحدّث لك ساعات عن الحبّ، ويرتفع بك إلى السماء، أو يهبط بك إلى أعماق الأنهر والبحار، كما أن لديه نظرة في الفراسة لا تخطئ، ويأتيك بأنساب القوم وأفعالهم ما ظهر منها وما بطن، وما بين بين…
هل أدعوه موسوعة العراق السياسي الحديث؟
يفهم البهرزيّ كلّ شيء عن بلاده، وذاق طيّبه ومرّه، والأمر الوحيد الذي لا يعرفه، ولم يذقه، هو الفرح.
أيّ جحيم يسكن عينيك يا صديقي ،
وأيّ همّ يملأ قلبك، وله ألف سبب وعلّة…
عيناكَ حين تحزنان تظلم الكروم! (تنويع على قصيدة السيّاب الشهيرة)
يحدّثك البهرزيّ عن شجرة برتقال عمرها مئة عام جفّت عروقها بسبب العطش، وماتت.
يحدّثك عن أنهر مدينته وقد صارت أخاديد سوداء ينظرها في راحة يده.
ويحدّثك عن الأرض المُواتْ، وعن البُغاةْ.
أيّ سريرة نقيّة!