في ظل عدم استيعاب قصيدة النثر من بودلير الى يومنا هذا والإشكاليات في وصفها وتقبلها كقصيدة شعرية تأتي الحداثة مقتحمةً كل قواعد الشعر الموزون لتصنع مكانةً للنص الشعري النثري في المقدمة وتنشئ لها كُتّابًا وجمهورًا ومدافعين ايضا رغم النوعية والمحدودية العددية لكنهم في ازدياد . من الإتهامات المعروفة بأن قصيدة النثر ليست قصيدة منصة (شكرًا لأنهم اعتبروها قصيدة بالأول ) ولا يمكن تلحينها كونها بلا وزن ولا قافية ، ربما كان تحدٍ كبير للموسيقار الفريد نصير شمه لكسر تلك المفاهيم عندما لحّن القصائد النثرية للشاعر امجد ناصر عام 2011 في مركز الإبداع في الأسكندرية وعزفٌ اكتسبت به القصيدة مساحة كبيرة للتصالح مع جمهور الشعر لما في الموسيقى من القبول في التلقي ، وأيّةُ موسيقى .. موسيقى نصير . اذن ، لن يتوقف اللحن على جملٍ شعرية عَروضية مضبوطة فحسب ، بل الملحن المقتدر بإمكانه ان يكتب نوتاته بأريحية وإن كانت لكلام محكي عاميّ ، والقصيدة الرصينة عامل جذب وإلهام لذلك الملحن . لا يُمكن إنكار الإسترسال السمعي للموزون ، ولكن ، ألا نجد ظلمًا للكلمات بعض الشيء ان يُستأنس بإيقاع اللحن للأغنية اكثر من الكلمات نفسها؟ ، حيث هناك نسبة لا يُستهان بها “حديثًا ” لاتكترث للكلمات بقدر اكتراثها بذلك الإيقاع وتزن الكلمات بميزان السائد كمقولة الأحبة في مصر (كله زي بعضه(. أسطورة التلحين العراقي الموسيقار فاروق هلال مبتكر الإنقلاب اللحني اتانا اليوم ليكسر قيد المألوف والسائد وينتقي نصًا نثريًا ثريًا مُرَكّزًا خالٍ من التفاصيل المملة التي تُخرِج القارئ عن سِرب المعنى بعنوان (نَبِيعُ الوَقْتْ) للشاعر والكاتب والإعلامي حسن عبدالحميد والذي يقول فيه :
في الوقت الضائع
أيامَ كُنّا
نبيعُ الوقتَ
مِنْ دونِ حسابْ
ولا …أحدٌ يشتري
ها… قد كَبُرنا…
ها… وقد كبرنا
على نحوِ ما كانتِ
الحياةُ … تَشتهي
تدافَعَ العمرُ يجري
كما يعدو السَّحابْ
ولو كُنّا…نعلمُ
كما الآنْ…
كيفَ الزَّمانْ
منتصبَ القامةِ يَمضي
لَكُنّا مسكنا
بأذيالِ الوقتِ…
نرجوهُ يبقى
وبكلِّ ما نملكُ
نَشتريهْ…
فما جدوى الأماني
حينَ …تلهثُ
آخرَ العمرِ…وداعاً
تصطفيهْ…!
ليخرج بأغنية أداها الغرّيد حازم فارس بصوت باذخ ، مكوّنين ثلاثية الحرف واللحن والصوت لاتنتمي للزمن الغادر كما وصفها الروائي أمجد توفيق، لتنتصر فكرة تلحين قصيدة النثر مع تكامل هذه الثلاثية ، حيث يسافر بنا الأستاذ هلال من سلّم نغمي الى آخر مُعطيًا للكلمة وقْعَها ووزنها في المعنى مُحيطًا بكل تفاصيلها ، لقصيدة كُتِبَت بعظمة وغُنّت بطرب ،ربما لن يُهضم هذا العمل الآن كما يقول الموسيقار فاروق هلال لكنه سيُهضم فيما بعد كما اخوته الذين سبقوه.
هي مغامرة من نوع آخر تدعو للجمال والقبول وفرض المختلف اللامع في التشابه المطفي .. فأية شهادة نالت اليوم قصيدة النثر !.