عامانِ مرّا على أغلاق آخرِ نافذةٍ لهُ.
مُطرقُ الرأسِ كعادتهِ قبل النافذة وبعدها، ولأنهُ لا مُستقرّ له في عمل واحد فقد أنجرف نحو بيع( العتيك) ، لكنهُ عَكْس الناسِ كُلّها فهو يبيعُ أكثر مما يشتري، يلعنُ ويصفُ نفسهُ بالأحمق حيث لا يجيد سوى ذلك.. وسوى أمرٍ آخر.. هو الكتابة… أنْ يكتبْ فهذا مستقرهُ وملاذهُ كوطنٍ من الوهم.. الأنكى من ذلك إن لديهِ طقوساً حين يشرع بالكتابه، يتبادلُ مع الورقةِ بياضها مقابلَ سيلاً من الكلمات بعد أن يلصق بياض الورقة بصدغِ رأسهِ.. راسهُ المليئ بالفراغ، الفراغ الذي تسبحُ وتتلاطمُ فيه الكلمات ،،،هذه أحدى طقوسهِ الحمقاء كما يصفها هو طبعا ولست أنا.. تبادلَ الوهمَ مع البياض وربما الوهمَ مقابل الوهمِ.. وهكذا أعاد أحد أوراقه الاخيرة من صدغهِ بعد أنْ كان قد ألصقها به،لم تَعُدْ بيضاءحيث تتدفقتْ الكلمات تفكّ بكارة بياضها، وضعها أمامه فوق طاولة الكتابة العتيقة، كلاهما عتيقان هو وطاولته.. بل كلهم “بالة” عتيق، الطاولة وجليسها، كلماتهُ وأوراقها، صوّبَ نظراته نحو نافذته النصف مفتوحة، شعاع الظهيرة الحارق يطبخ ذرات الهواء مع طحينِ الكلمات في رأسهِ فيتحول كلّ شيئ إلى عجينة فكرةٍ تتصدر قائمة قراراتهِ أو أوهامهِ اللعينة.
لِمَ لا يحزمُ كلّ شيئ ويبيعهُ؟! ليس بحاجة إلى كل شيئ! وكلُّ الشيئ هذا هو الآخر ليس بحاجة إليه، والكلُّ بما فيهم هو ليس أكثر من كيسٍ سيضع به حتى نفسهُ.. نفسهُ المنشطرة بين طاولتة المثخنة بشظايا الزمن وقمامة أوراقٍ جديدة وعتيقة تتوزع في غرفتهِ الرطبة وفوق طاولتهِ كقناديل مطفئة في ظلام الغرفة وبين ندوب الطاولة، آخرها تلك الورقة التي تبادلَ معها غيوم الوهم والبياض، وهو يرفعها عن صدغهِ الموشّم بوشم قديم للشمس، نقشتهُ له جدته، جدتهُ التي تنوء وتنوح من وطأة مرض قديم، كل شيء عتيق في حياته، جعلهُ يشعر إنهُ مجرد رجلٍ غريبٍ في غربة حياته المزمنة، جدتهُ فقط من أعانتهُ على نصفِ عمرهِ بعد أن كان فقد أحضان أمه في نصفه الأول، كم عمره الأن.. السنين لا تخبرنا كما الأوراق أيضا.. أحنى ظهرهُ ليس بسبب جدتهِ بل من أجلها واضعاً (پلة) العتيق عليه.. أختهُ الطاولة وأخوه الكرسي المنفلتة بعض مساميره. وثمة صورة معلقة تُسْجِنُ جندياً
لم يتبقَ إلأ شبحهُ وأشياء أخرى لم تَعُدْ صالحة لذكرها في قصتي البائسة هذه.. كل هذه العائلة رُزِمتْ في الكيس الأصفر (الپالة).
يقضم أشياءً كثيرة من بيته ليلُقمها فمَپ السوق.. تعلّمَ البيع دون أن يتعلمَ الشراء.. كُناسةِ الأوراق أيضاً حشرها مع أفراد عائلته هولاء في كيسهم المُرَحّل إلى السوق.. يجهلُ الهاجسَ الذي جعلهُ يضّمُ كُناسة الكلمات مع بقايا عائلته.. أوَ ليسَ السوقُ بقريب.. علَّ ثمناً يريحُ جدتهُ بدواءٍ رخيصٍ كرخصِ ذلكما النصفينِ من عمره.. كرخصِ ذلك الشبح المعّلق مع بيريتهِ المتورمة على رأسهِ.. كرخصِ كلِّ شيء رخيصٍ وليس برخيص، لم يستطعْ أنْ يُعّبئ شعاع تلك الظهيرة المارق من نافذتهِ الخجولة ولو كان يستطيع لفعل ذلك وهو يلملمُ ظلامتهُ وعزاءهُ وظلامهُ داخل الجنفاص.. حتى الكُناسة الناطقة.. تمَّ البيع وتمَّ الشراء..وعاد بائعاً ولم يَعُدْ مشترياً..
عاد مُطرق الرأس كعادتهِ، رأسهُ مليئ بالمطارق تطرق رأسهُ ويردُّ عليها.. (لست كسولا ولست فاشلا ولكنني قاضماً لنفسي، ولأنني مقضوماً مني وعليّ ولأنني القاضم والمقضوم لم أجدْ أو أجيد عملا ما.. فهل رأيتم مقضوماً يعمل؟!
كلُّ مرة أكل جزءاً مني ثم أُطعمهُ لأمعاء السوق مناصفةً مع أمعائي وأمعاء جدتي.. لا فرق.. ثم أعود مُطرق الرأس).
وها هو الان يحدق بنظرات دهشة بعد أنْ مرَّ عامان على آخر شعاع نفذَ من نافذته العتيقة.. حدّقَ.. أندهشَ.. أنزلَ فكهُ الأسفل.. فتحِ فاه.. عيناهُ لا تصدقان.. كُناسة كلماته معلقة على رف جميل في مكتبة جميلة وبغلاف جميل وأنيق.. العنوان
أشعلَ ثورةً من الغضب البائس والدهشة في عينيه… ( أوراقٌ لنافذةِ جدتي).. تلّفتَ يميناً ويساراً كأنهُ يُلقي الأسئلة للطريق..للرصيف.. للمارة.. لكن الفراغ هو من تساقطت فيهِ أسئلتهُ المخضبة بالملامةِ والشك.. رمشاتُ عينيهِ تفضح حيرتهَ.. أصابع كفهِ تمسك بمقدمةِ خصلات شعرهِ الكثة.. سيسألُ مَن؟!.. ومَن سوف يجيب؟ غادرَ المكتبة منطقة الدهشة… عدة خطوات حزينة ومتسائلة إلى الأمام و عدة التفاتات أطلقها رأسهُ المُطرق دائما صوب جدتهِ إلى الخلف.. جدتهُ المعلقة فوق الرّفِ الجميل في المكتبة الجميلة… وهو يشقّ الطريق بين المارة يحمل على ظهره پالة عتيق أخرى.. يبحث عمن يشتريها منهُ.
****************
*العتيك/ أشياء مستعملة تباع وتشترى
*پالة العتيق/ كيس من الناليون توضع به الأشياء العتيقة المستخدمة. والجنفاص هو نوع أو طبيعة نايلون هذا الكيس.