بقلم | حميد الهاشم

 

الثالثة فجرا بدأت زائرة الفجر حضورها، حمى بشكل أرجواني،لون بنفسجي يسري في أوصال جسده، كانت عيناه تتقلبان بين ألوان أعتقلت كل لحظة نعاس اوغفو، بل حتى لحظة صحو، فلم يكن نائما ولم يكن صاحيا بل كانت غشاوة تغطي الوعي وتدثر اللاوعي، الكل فيه مستفيق والكل فيه نائم، والزائرة الساخنة في ليل الحقيقة الثلجي تتشح بأجنحة طيور وتغادر الي مدينة أخرى بعد أن فتحت و أغلقت أزرار الإرسال ما بينها وبينه، حب بين مدينتين حتى يتبين الخيط الذهبي لوقاحة الشمس

لو ظل يتفلسف هكذا فأنه لا يفقد النوم فقط بل يفقد اليقظة أيضا..بل أنه فقدها، فأنه بلا يقظة وبلا نوم  ولمدة ثلاث ليالٍ.. ثمة قطرة ندى تفتح ثغور وريقاته،

وثمة شيطان  يترجم صحوة الخريف المتمرد لديه، متمردا على ترانيم الملاك وبكل وقاحة، الملاك فيه يعيش هزائمه الأخيرة مع تلك الحمى الزائرة المهاجرة، ولم يعد يصدق لغتها التي كانت تنطلق عبر آلاف الفراسخ، فقَدَ لغتهُ هو بهزيمة ملاكه الطيب الخجول، حمى عارية، وهودون لاوعي الملاك، وفي لباب وعي الشيطان، لبابا كاملا لاوعيا كاملا، وشيطانا كاملا.

عند الصباح كان عليه أن يكون في صباح القبيلةولاصباح له ولاقبيلة لديه إذ لم تخرج من شرايينه بعد، العسل الأحمر مازال يحتل أوردته، ولكن عليه أن يكون.. رغم أنه فقد القدرة !

وبالتالي عليه أن يكون!

لكن كيف ؟!

عجلات الطريق  تأكل الطريق، نصف ساعة لكي يصل، ثم يصل، مشاهد البيوت وملاعب الكرة الشعبية وجوقات الأطفال والباعة المتجولين ومن كان معه في المركبة الصفراء مجرد ضباب،لم يتعب  عينيه بالنظر أو التأمل فيها، مجرد ضباب.. هاهو يصافح ويجلس وحتى يبتسم ككائن من ضباب يختلط أضطراريا مع كُتَل بشرية من ضباب أيضا.

ألآ تبا لي؟

قالها في لحظة وعي قفزت إلى سطح البحر في عقله.

لماذا تبا لكَ؟ لا للضباب أو من أجله وأنما بعض من تداعيات الحمى، تداعيات مدن العقل والجنون، الملاك والشيطان على أمتداد شرايينه! هو لا يعرف أو يعرف، إنها كلمات ما دون نفسها وما فوق الحقيقة.

أكثر من خمسين مشرعا من مشرعي تلك الظهيرة أجتمعوا.. مشهد تشويق عند البدء وعند الختام.. فأحتدام وتصارع المَشَاهد يكسب الساعات تتابعا كفلم سينمائي وبلا مخرج أو مونتاج أو تمويه.

طقطقة المسابح وأكواب الشاي، وصَبْحّكم الله بالخير، والعباءات الملونة والأشمغة المرصعة بالامواج والشباك والعقال بملوكيته يهبط مستقرا فوق هامة كل مشرع جاء ليدلو بدلوه والذي يحفظه أو أعده قبل يوم أو يومين وبعض الدلو أرتجالي يناغم خبرة العقال والكوفية والعباءة المُزركشة الشراشيب.

فمالذي أتى برجل الحمى والذي لم ينم لليال ثلاث..”سفر بلا سفر ولقاء بلا لقاء كما قيل فيما بعد”.

هسه يحجي الاستاذ.. رجاءً خلي نستمع!

يا الله.. أستاذ عبد النور تفضل.. هذا ما قاله الكليط.

بعد الستين بخمس قوافل حمقاء من السنين، الاستاذ عبد النور يختصر العمر هكذا، معركة الشيب في فروة رأسه إنتهت تماما بهزيمة نكراء للأسود المحبوب مقابل أنتصارا ماحقا للأبيض الذي لابد منه.. فالفروة بيضاء بالمطلق عكس القلب تماما، ذلك الرمادي اللعين الذي لم تُحسم معركته بعد، يشعر إن كل معاركه لم تحسم بعد، وأقرب الحقيقة لعينيه هو هذا الضباب، وإن كنا أقرب للواقع قلنا نعاسا، وفي الحقيقة لا هذا ولا ذاك.. إنها الساخنة.. أنها الزائرة…إنها..!!

ماذا أقول؟

وقف عبد النور “المسطور” على قدميه المتراخيتين، عيناه تتقلبان، جيئة وذهابا   تتفحصان الجالسين على مقاعدهم في مشهد مستطيل الشكل يقطع ربع ذلك الزقاق الضيق، ثمة رؤوس بلا عقال برزت كبراعم بعضها أُصيب بالشيب وبعضها لم تُصٓبْ وسط حديقة العُقُل هذه وقف الاستاذ عبد النور لكنه أكتفي بوقوفه ولم ينطق شيئا..رفع كفه الأيمن ليمسح جانب وجهه الأيسر، متى تتحدث ياعبد النور، لكنه لم يتحدث، فبادله نصف الزقاق النظر والتصفح، أدار وجهه يمينا ثم يسارا، وكأنه يقول ماذا؟ ماذا تريدون؟ لماذا نحن هنا؟ لكنه لم يقل إلا عندما أحنى رأسه وصدره بل نصف جسده الواقف أتجاه جليسه الأقرب إليه مكانا وروحا

_ماذا يريدون؟!

_بل أنت ماذا بك؟

أجابه جليسه بدهشة وأستغراب ثم أستطرد.

_لك الحديث.. متعب.. مريض.. تقرأ كثيرا هذه الأيام.. أستفقْ عبد النور.. هذه جلسة العشيرة وأنت من يمثل بيتنا.

أعاد أنتصاب نفسه.. أزدادت وتلاحقت طقطقات المسابح تعلن أستفسارا في لحظات الشرود، للأستاذ والكاتب والذي له تقديرا خاصاعند أصحاب هذه الأصابع، والتي بعضها راحت تفرك بعضها ،وبعضها يمسح وجه صاحبها,  ورمشات العيون تتوالى، ليس ثمة من لا يعرف الطبيعة المتكلمة عند الاستاذ الغائص في غيبوبته، السياسة، الدين، التأريخ، ومناصات الشعر.

عمرا من الحروف العذبة َوالتلاحق الجميل لها، فماذا جرى؟ لم يقرّْ بالهزيمة كعادته فيفرُّ جالسا، ولم يجرؤ أحد من المستطيل العشائرئي أبلاغه بذلك ويبرر له الجلوس

والغيبوبة ما زالت واقفة، والعناد الذي لاعناد فيه ليس بعناد.. فماذا جرى؟!

أطلّت أمرأة عجوز متشحة الرأس بفوطة سوداء من أعلى حائط الدار المجاورة للمجلس المُهيب والمعيب (هيه.. هيه.. شنو الموضوع.. شنو القصة..!).

فيما توقف صاحب عربة اللبلبي المارّ مصادفة وقد  سها  عن طفلين يتلاعبان  بأواني بضاعته الساخنة دون ردّ منه وهو غارق بين فرجات الرؤوس في نظراته ليتبين ماذا يجري.. بضعة صبية تسمرت عيونهم في ملامح الاشيب عبد النور الستيني.. كل العيون تنظر بأتجاه واحد والافواه تسأل سؤالا واحدا  والجميع ينتظر ردا واحدا.. ماذا يجري؟!

ماذا يجري؟!.. صحيح ماذا يجري يا أستاذ عبد النور؟

ماذا جرى.. أخبرني فأنا اعرفك منذ قصائدك الأولى.. ماذا جرى.. أدار وجهه عني ومضى بعيدا تاركا قفاه المنحني ببعض فقراتهِ يتلقى أسئلتي دون ردّ، غير بعض كلمات  لم أفقه منها شيء غير… حمى خريفٍ عارية.. سفر بلا سفرٍ ولقاء دون لقاء.. ثم..من قال إني كنت حاضرا ذلك الاجتماع اللعين؟

 

أنتهت..

الكليط/رئيس أو كبير العشيرة

المجلس كان في الزقاق ولم يكن داخل بيت أو سرداق(جادر)

شنو القصة/ سؤال استنكاري أو تعجبي

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *