بقلم | م. سمر محمد عيد
كاتبة سورية
صمتٌ يهيمن على المكان، يتوقفُ الزمنُ عن الدوران، خارجَ أسوار المدينة، في مقبرةٍ نائيةٍ عن ضجيجِ الحياة، وأصوات القذائف المتبادلة، ورصاصات الغدر مجهولة الهوية.
وارَوا جسدي التراب، وابتعدوا يتسربلون الحزنَ والأسى، ظلّ صدى خطاهم ونحيبهم يتردّد على مسمعي.
توالتِ الأيام ثقالًا، والأشهرُ كليلةً، بظلامها الحالك، طفقَ الشوقُ يدفعني للذهاب والاطمئنان عليهم، بعد انقطاعهم الطويل عن زيارتي.
هناك خلفَ شجرةِ زيزفون هَرِمة، يملأُ عبقُها أنفاسَ المارين، تتداخلُ صفرةُ أزهارها بخضرةِ أوراقها لتواري شرفة منزلي.
تسللّت خلسةً من الجهة الخلفية، فالهدوء المخيّم، بعث بروحي بركانا من الشكِّ والقلقِ والحيرة، وبدأت الظنونُ تنهشُ روحي، فأخذتْ خطواتي بالتقهقر،
طفلتي ليست في سريرها الورديّ المليء بالألعاب!
كلُّ لعبة لها ذكرى جميلة، ذلك الدبُّ الملونُ الكبيرُ المنكبّ على وجهه؛ أهديته لها في عيدِ ميلادها الثاني، وتلك الدميةُ الشقراء المبتسمة كانت هديّتُها في يوم ميلادها الثالث.
دفعني الفضولُ لأكملَ طريقي إلى غرفة نومي المقابلة تماما لغرفتها،
لابد أنها الآن مع أبيها؛ فهي مدلّلته الوحيدة التي يحبها، فلا تغفو إلا في حضنه.
اقتربتُ أكثر، همساتٌ وقهقهاتٌ، تتسلّلُ إلى مسامع الواقفِ أمام الباب، يا إلهي.. زوجي وصديقتي المقرّبة الطيبة، في غرفتي، وعلى سريري.. بوجهها الملطّخ بألوان صارخة، كمهرّجٍ في حفلة تنكرية.
أطبقتْ رائحةُ الخيانةُ على صدري، وقذفتني بعيدًا؛ نعم خيانةٌ في عُرف الصداقة التي كانت بيننا!!
استعدتُ توازني بسرعة، و نفضتُ بحزمٍ غبارَ الهوان، وانطلقتُ أبحثُ عن صغيرتي، تلفحني سمومُ القهر.
أمامَ شجيرةِ الياسمين التي مازالت معرّشة على النوافذ الحزينة، تتمايلُ الستائرُ بصمت مهيب، تكشف على استحياء عن وجهِ أمي، تهدهدُ طفلتي،تقرأ المعوذاتِ، وتمسّدُ جسدَها الغضّ؛ كما كانت تفعل معي من قبل، عندما كان يلمّ بي قلقٌ وخوف وألم.
في الصالة الكبرى ، لمّا يزلِ النقاشُ دائرًا بين أخوتي في أمور السياسة والدين، مصرّين ألا يتفقوا، غير آبهين بابتسامتي المعهودة في صورة موشّحةِ بالسواد،معلّقة على جدارٍ كبير يتصدّر الصالة.
بصرخة مخنوقة قاطعتهم :
“كفى… سيأتي يومٌ تصمتون فيه إلى الأبد، إنما الدنيا دار فناء لا بقاء..”
اقتربتُ بهدوء من أمي الحبيبة، طبعتُ على جبينها قبلة، تبعتها بقبلاتٍ غمرتْ وجهَ طفلتي الغافية في حضنها.
غسلتُ الحزنَ والخيبة والمرار، بالدمع الهاطل من عيوني؛ لقد كان كلُّ شيء بخيرمن دوني…
وتركت المساءَ حزينًا كئيبًا يتجرّع الحسرةَ على شرفة النسيان.