ها أنت تخلع عن جسدك ثياب الدنيا البراقة لترتدي ثياب بيضاء نقية طاهرة تذكرك بالرحلة القادمة الى غير هذه الدنيا .
وها أنت تنزع عنك أغلال الجسد بما فيها من أطماع وأهواء ورغبات لتغمرك أجواء روحانية لم تتوقعها .
انك الآن في موضع غير المواضع التي كنت عليها ، أنت الآن في بقعة من بقاع العالم تحف بها الملائكة من كل صوب وحدب ، انها أرض الحرمين .. حرم رسول الله وحرم بيت الله ، فهل أنت حاضر المشهد بقلبك ووجدانك وأنفاسك !
ان القلب ليخشع وان العين لتدمع في هذه الساعات التي تطأ فيها قدماك أرض المسجد النبوي ، فاذا توضأت وأقمت الصلاة وركعت وسجدت هانت عليك الدنيا ، فكل صلاة هي ألف صلاة ، خاشعا ترتجف أوصالك لذكر الله ، ثم تمضي في رحلتك لتقف وجها لوجه أمام قبر رسول الله ويا له من موقف رهيب تتجلى لك فيه سيرة المصطفى بخلقه وصبره وكفاحه وجهاده لتبدو الصورة متألقة تعانق الوحي بما فيه من آيات معجزات ، انه من حمل الرسالة وأدى الأمانة وأخلص للأمة.. فكانت هذه الجموع بآلافها المؤلفة ترتاد المسجد ليل نهار يحتويها التوحيد والايمان .
(انك ميت وانهم ميتون ) غير أنك حبيب الله وأنك حي في ضمائرنا وقلوبنا ، وتنحدر الدمعة تلو الدمعة في هذا المشهد الجلل أمام مقامك الكريم ، يحيط بك صاحباك أبو بكر وعمر ، فيا لها من صحبة كانت في الدنيا وفي الممات وفي الآخرة .
فاذا انتهيت من هذا المشهد انتقلت الى البقيع .. وهو مشهد يثير فيك اللوعة والشوق والحزن لأصحاب رسول اله وأزواجه الطاهرات .
وتكتمل رحلة المدينة المنورة عند جبل أحد ، وما أدراك ما جبل أحد ! كان رسول الله يقف عنده ويرثي لشهداء أحد بما فيهم عمه حمزة ، غير أن آخر الرحلة ليست ببعيدة .. انه مسجد قباء ، أول مسجد في الاسلام كان رسول الله يزوره كل يوم سبت راكبا أو ماشيا .
غيرأن الرحلة ما تزال في بدايتها في هذه الديار المقدسة ،فما أن تغادر المدينة مودعا حتى تصل آبار علي بعد قليل لتغتسل وترتدي ثياب الاحرام ، وبعد ست ساعات من السفر تصل الى مكة والى الكعبة .. بيت الله الحرام ، تريد أن تؤدي مناسك العمرة فتطوف بها الطواف سبع مرات وأنت في غمرة الانبهار .. ما الكعبة ! أي شعور يراودك وأنت في حضرتها ، ما لهذا القلب يخفق ويرتعش اجلالا وتقديسا ، ثم ها أنت تسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط .. هكذا فعلت هاجر زوج ابراهيم بحثا عن قطرات ماء لطفلها الصغير فاذا بماء زمزم يتدفق بين قدمي هذا الصغير اسماعيل .
حكمة بالغة بين جنبات البيت العتيق من رب البيت ، فاذا البقعة الخاوية الموحشة تغدو بقعة مباركة يأتيها القاصي والداني من كل حدب وصوب مهللين ومكبرين ، تلك هي دعوة ابراهيم ، واد غير ذي زرع لكنه آمن يأتي اليه الرزق من الثمرات فلا خوف ولا جوع .
أليس هو مشهد يهزك من الأعماق وأنت ترى هذه الحشود من كل جنس ولون تتدفق بسعيها وطوافها في كل ساعة من ساعات الليل والنهار .
أي دعوة لأبي الأنبياء ! وأي رسالة لخاتم الأنبياء !
وها أنت كلما سمعت صوت الأذان في الأوقات الخمسة جئت مسرعا ملبيا النداء واقفا أمام الكعبة في ركوعك وسجودك وتضرعك وخشيتك ، ويا لها من صلاة هي مائة ألف صلاة في مسجد سواه .
وها أنت تردد من أعماقك ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد اذ هديتنا )
وها أنت أيضا تمضي في رحلتك في طرقات تتراءى لك فيها جبال شامخات حتى تصل جبل عرفة وهو الذي قال عنه رسول الله ( الحج عرفة ) فاذا وطأت قدماك عليه هللت وكبرت ودعوت ما شاء لك أن تدعو ، فاذا انتهيت من هذه الوقفة المباركة مضيت في رحلتك حتى تقف عند سفح جبل ثور ، وهو جبل التجأ الي غاره رسول الله مع أبي بكر في الهجرة الميمونة حينما هم كفار قريش بجريمة اغتيال المصطفى عليه الصلاة والسلام ، غير أن الرحلة لم تنته بعد فها هو جبل النور الذي يضم بين دفتيه غار حراء ، وما أدراك ما غار حراء ! حيث هبط الأمين جبريل على رسول الله يتلو عليه أول آيات القرآن الكريم ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )
أما آخر المطاف لهذه الرحلة المباركة فهي ساعة وداع للكعبة ويا لها من ساعة ويا له من وداع .
انه لا شيء يحول بينك وبين دموع تذرفها العين وخفقات قلب مضطربة تود لو أن بينها وبين هذه الساعة أمد بعيد لأن ساعة الفراق أوشكت أن تدق أجراسها .