في إطار كتابة قصيدة النثر ثمة أوهام وقع فيها عدد كبير ممّن يدّعون الانتساب شعريا إلى تلك القصيدة ،لاسيما في النماذج التي قدموها إلى ساحة التلقي في العقد الأخير ،وعلى صفحات المئات من الدواوين،وتحت غطاء خلفي مكثف من رشقات التنظيرات النقدية المضطربة التي برّرت لهم بحسن نية أو بسوء نية الكثير من تلك المجازر الشعرية التي ارتكبت تحت شعارات الحداثة والتحديث والتجديد أو الاقتداء بالتقليعة السائدة ،فالشعر أيضا،يخضع في عصرنا -وكما يبدو -لقوانين التقليعة(الموضة) ،واليوم نعيش أيام قصيدة النثر بعد أن مرت على الشعر أيام القصيدة الحرة ،والمدورة ،والقصيرة ،وقصيدة القناع …..الخ،فلا أزياء ثابتة في هذا العصر ولا أزياء تستطيع الصمود أكثر من عشر سنوات ،ولا أقول عشرة قرون وأكثر،مثلما صمد زي القصيدة العمودية الشعرية ،وأُوكد هنا على صفة الشعرية ،لكي لا تلتبس القصيدة العمودية الشعرية بالقصيدة الأخرى التي اسميها بالعمودية العروضية فحسب .
ولعل أفظع تلك الأوهام تصور بعضهم بأن التخلي عن كتابة القصيدة العمودية أو شعر التفعيلة ،والتوسل إلى حضرة الشعر بقصيدة النثر ،إنما يعني التخلص من معضلة الإيقاع العروضي الخارجي والى الأبد..
مع أن كتابة قصيدة النثر هي امتحان لا يخلو من الصعوبة ،بالنسبة للكاتب إن لم يحسن دراسة تاريخها وقوانينها الشعرية ،ويتقن لعبتها الفنية ،لاسيما أنه في لحظة الكتابة يقف في عراء إيقاعي بعد تجرده أو تحرره من سلطة العروض .وأنه مطالب بإيجاد أرضية إيقاعية بديلة عنه .وإن حاكمت هذا الشاعر عن أسباب ذلك (التحرر) فإنه سيقدم لك حججا وللأسف الشديد ساهم في ترويجها كثير من كتاب القصيدة العمودية العروضية الذين كانوا يكتبون نظما لا شعرا ،والفرق معلوم بين النظم والشعر.
ومن تلك الحجج التي شوّهت سمعة العروض ونسبت الذنب إليه أن هذا الشكل الإيقاعي الخارجي (البحر والقافية ) قد أمسى في عصرنا غطاء تمر من تحت وصايته ورضاه كتابات لاصلة لها بالشعر إلا بالاتكاء على هذا الجدار المتين السميك ، الممتد بأسسه إلى الماضي البعيد المجيد , الذي يوفر بوصفه الأخير هذا ,ضمانة مسبقة لأي كاتب يتقن العروض بعدم التعرض النقدي له مهما أخل بالمستويات الفنية الأخرى … ومن ثم يحق له نيل هذا اللقب العظيم : الشاعر, وأن تنال نصوصه المنظومة تصنيف الشعر في دار الكتب ومن ثم يبارك نصه بالنشر مادام موزونا مقفى حتى إن كان النص يعج بجثث المجازات الميتة,مثل: نار الحب ,ولوعة الشوق,وعين المها .. والذنب هنا ليس ذنب القصيدة العمودية وعروضها,بل ذنب ناظمها الذي لم يتقن استخدام تقنياتها فنيا,ولم يفلح في تكريس إيقاعها لخدمة التجربة التي تعبر عنها, وكان همه الأول والأخير ملء تفعيلات البحور بما يناسبها من الكلمات والقوافي,ولان الشعر في عرفه وافقه لايزال قولا موزونا مقفى .
وأعود إلى كتاب قصيدة النثرـ ولا أعني ضرورة كلهم ـ الذين يظنون أن نصوصهم بما أنها قد أعفيت من امتحان العروض بعد حجة التشويه التي لحقت بسمعته,فإنها الآن قد امتلكت مفاتيح النجاح والقبول لدخول جنة الشعر,وذاكرة الجمهور,بهذه الحرية المزيفة,في حين أن العكس هو الصحيح.
إذ إن التخلي عن الإيقاع الخارجي إنما يعني خلق مواجهة أصعب مع فضاء ايقاعي جديد لم تحدد ملامح أشكاله مسبقا ,واعني به الإيقاع الداخلي ,وبالقدر الذي يتيح له الاستقرار تنظيريا على صيغة معينة تفصيلية وثابتة , ينهل منها من شاء التطبيق,فهذا الإيقاع لايزال- وسيبقى – اختيار شكله وأدواته أمرا ملقى على عاتق الشاعر وخصوصياته الفردية في الكتابة الإبداعية النابعة من طبيعة التجربة التي يريد التعبير عنها برؤاه الخاصة للعالم .
وتلك المواجهة الصعبة نفسها سوف تنتقل فيما بعد إلى المتلقي ,لأن هذا الآخر سيواجه مسبقا وعلى غير ما يتوقع أفق انتظاره الإيقاعي مجهولية في الإيقاع وطبيعته ونوعية أدواته التي أسست الإيقاع الداخلي للقصيدة المرسلة إليه التي لا يمكن اكتشاف إيقاعها إلا بعد عدة قراءات وتأملات وعلى العكس مما كان يحصل معه ـ وأعني المتلقي ـ وقد تعود عليه وهو يواجه قصيدة عمودية أو حرة,إذ يمكن اكتشاف الإيقاع الخارجي من أول بيت أو سطر في القصيدة ومن خلال التعرف على البحر والقافية ,ومن ثم الحصول سريعا على تطمين سريع لأفق انتظاره الإيقاعي .
وإذا كانت قصيدة النثر قد تبرأت من الإيقاع الخارجي,فإن مسؤولية الصورة الفنية فيها قد تضاعفت من أجل التعويض عن نقص الشعرية الناتج عن غياب أهم عناصر توليدها على الصعيد الموسيقي الصوتي ,وأعني به الإيقاع الخارجي الذي وفر لعصور طويلة شعرية جاهزة لكل من أراد كتابة الشعر,غير أن كثيرا من كتاب قصيدة النثر قد أضاعو الاثنين (الإيقاع والصورة) وهما أهم عناصر بناء الشعر.
فبعد إضاعة الإيقاعات الخارجية, جاء ضياع آخر على صعيد الصورة الفنية,إذ اكتضت القصائد النثرية بركام من الصور المشتتة المجانية التي لاتربط بينها أي حصيلة دلالية تؤهل متلقيها للخروج منها بتأويل ما, والأفظع من ذلك كله,هو هرب مرتكبي هذه المجازر الشعرية عند أية مسا لة لما فعلوه إلى الاستسعاف بمصطلحات تبرر ما ارتكبوه من ,مثل مصطلحات الحداثة وتيار الوعي والمونتاج …..الخ ,أملا بتسويغ فوضى قصائدهم وما دروا بان مايكتبوه من هلوسات شعرية لاصلة له بهذه المصطلحات التي اساؤو ا إليها, والعجيب أنهم لم يكتفوا بذلك ,لأنك ستسمع شكواهم فيما بعد عن ابتعاد النقاد والنقد عن معالجة نصوصهم ,وكأنها رجس من عمل الشيطان, وقد صدقوا فعلا بهذا التشبيه ,لأنهم مادروا أن نصوصهم الممسوسة المعزولة عن فضاء التوصيل والتلقي يمكن تشخيصها ومعالجتها في عيادات الصحة النفسية وليس في العيادات النفسية النقدية ,وأن شعار البنيويين (موت المؤلف) يمكن توسيعه بجهودهم وكتاباتهم ومن أجل مصلحة الأدب والنقد إلى شعار (موت المؤلف والنص والنقد والناقد والمتلقي) وحينئذ سيسود الصمت الذي هو أبلغ مما يسمونه قصائدهم التي أساءت إلى قصيدة النثر وصورتها الحقيقية الشعرية,مثلما أساء عباد العروض إلى القصيدة العمودية …
إننا لسنا مع أو ضد القصيدة الموزونة أو النثرية ,بل نحن مع الشعر الحقيقي في أي شكل جاء …..