لايخفى على الكثير من القراء والمتابعين والمهتمين بالشعر والأدب الميول السياسية الصريحة والواضحة لمظفر النواب الذي عرف بانتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي لفترة طويلة من الزمن وقصائده “الثورية – يسارية الاتجاه” مثل قصيدة البراءة وصويحب والكثير من النصوص وأبرزها في قصيدة وتريات ليلية:
“أشهد أني من بعض شيوعية هذي الأرض”
حيث نرى انتمائه اليساري ذا الأبعاد القومية والتي أيضا تشكل شكلًا من ضبابية التحولات والاتجاهات الفكرية لدى النواب تحديدا في نفس القصيدة التي يذكر فيها مقطعين مهمين ” النخلة أرض عربية .. فروحي عربية” خصوصا وإن الفكر الشيوعي هو أُممي ولايعترف بالحدود القومية الضيقة والرجعية في بعض الأحيان ولعل أن هذا الأمر لم يكن فقط عند النواب وإنما عند عموم اليسار العربي الذي تاثر بأفكار لينين عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وإلى زمنٍ كان فيه الوطن العربي في الذهنية الشعبية وطنًا واحدا ومجزءًا بسبب الاستعمار فلا بد من أن يستقل ويوحد وأيضا ساعد التأثر بالناصريين الذين أقاموا تحولاً بعد النكسة إلى الفكر الماركسي أو ماعرف عند الفصائل الفلسطينية بالهجرة الفكرية التي أنتجت مفكرين عروبيين وماركسيين وليس هنا فقط بل من زمنٍ طويل يأتي من محاربة الشيوعيين للاستعمار في البلاد العربية ورفع شعارٍ قومي التوجه “فلتحيا وحدة جمهوريات العمال والفلاحيين في البلاد العربية” إن ازدواجية النظرية هذه لم تنتج إلا تشوهًا فالأممي لا يكون قومياً والقومي يظلُ محصوراً بخانة الحدود الضيقة
ولكن المتعارف عليه عند عامة الناس وعند النخب الثقافية بأنَّه تبنى الماركسية و هو في الجامعة، كما أنه تعرض للتعذيب على يد الحكومة الملكية. كذلك في عام 1963 اضطر لمغادرة العراق إلى إيران (الأهواز بالتحديد عن طريق محافظة البصرة)، بعد اشتداد الصراع بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام الحاكم حيث انحاز النواب لقضايا الفقراء والبسطاء ومناهضة الاستغلال والاستعمار وأنظمة الحكم السائدة، ما عرَّضه للملاحقات داخل وخارج وطنه واضطر لاحقاً للعيش منفياً في غربته التي ناهزت نصف قرن تقريباً.
ولا بد من الإشارة بأن في سجنه الصحراوي “سجن نقرة السلمان سيء الصيت” الذي أمضى فيه وراء القضبان مدة من الزمن حتى هرب منه مع عدد من رفاقه عن طريق حفرِ نفق. وبعد قصة الهروب من السجن توارى عن الأنظار في بغداد، وظل مختفيًا فيها حتى سافر إلى جنوب العراق وسكن في مناطق (الأهوار)، وعاش مع الفلاحين والبسطاء حوالي سنة وانضم إلى فصيلٍ شيوعي سعى إلى قلب نظام الحكم عُرِف بالحزب الشيوعي – القيادة المركزية و ظل متنقلا بعدها في العديد من بلاد المنفى.
اشتهر النواب بنصوصه المثيرة للجدل والتي اتهمه فيها عدد من “النقاد” بالإرهابية مثل قصيدة “عبدالله الإرهابي” و”جهيمان” ولكن هي مشاعر انطلق منها الشاعر وفق مفاهيمه السياسية الخاصة التي يسميها محبُّوه بالثورية والتي قد تكون زلة في حياة النواب الشعرية حيث تُعدُّ قصيدةَ جهيمان التي أيد فيها الهجوم الذي شُن عام ١٩٧٩ على الحرم المكي دون أن يراجع أو يدقق في مفهوم “ثورية” حيث تحدث ناقداً لرفاقه:
” بينما اليسار يقلب في حيرة معجمه
كيف يحتاج دم بهذا الوضوح
إلى معجم طبقي لكي يفهمه ”
ولا يخفى على العديد بأنَّ الموقف وقتها كان بالأمر مبهم لدى الكثير من القوميين العرب واليساريين وكل ماتوفر هو وجود مجموعة تحاول قلب نظام الحكم السعودي حتى تبين أن الأمر عكس ذلك ولعل الشاعر في عجلةٍ لقلب أنظمة الخليج الرجعية وتهوراً منه في دعمه لحركةٍ أشد منها رجعيةً وهو ما كان خطأ كبيرًا اقترفه النواب في حياته السياسية والشعرية.
– اللغة في الشعر السياسي لدى النواب
بعد ثورة ١٤-تموز-١٩٥٨ بدأ الشعر الشعبي ازدهاراً ملحوظاً وذلك لما رآه الحزب الشيوعي المقرب من سلطة ١٤ تموز بأن دراسة الثقافات الشعبية الموجودة وإدخالها في مضامين الشعر والنزول لمخاطبة الجماهير بلغتهم والتقرب منهم ورفع اللهجة الشعبية كما ذكر المقال الأول إلى مستوى أعلى (لهجة المدينة) وهو ما فعله الشيوعيون في الفصيح كذلك حيث صارت المعادلة كالآتي:
إنزال اللغة العربية الفصيحة إلى أبسط المفاهيم التي يمكن فيها مخاطبة الناس و رفع اللهجة الشعبية إلى مستوى المدينة
وبشكل جدلي أدى ذلك إلى نجاح العمل بخلق لغة وسطية بين العامي والفصيح وكسر الطبقية اللغوية التي في الشعر الشعبي أو الفصيح وبوفق مفهوم الواقعية الاشتراكية السوفيتية بأنَّ إنهاء الطبقية في اللغة تُوصلنا بالتالي إلى إمكانية إنهاء الطبقية الاجتماعية حيث توحد الناس في مفاهيم لغوية موحدة وأصبح باستطاعتهم النضال سوياً بعد التخلص من مفاهيم ( النخبة الثقافية – عامة الناس ) وهذا إسهامٌ كبير وله إيجابية إلا أن المسألة لم تكن بتلك البراءة حيث أنها كانت من مهام الحزب وأن تطور الشعر الشعبي والتأسيسَ لآفاقه الجديدة الذي جاء بين الشيوعيين ليس سوى لأجلِ التقرب من الناس والجماهير حزبياً لا أدبياً.
ما يمكنُ أن يقال بحق النواب أنَّه شاعر مجدد وله إسهاماته الأدبية في الشعر الشعبي و مواقفه الشخصية التي لسنا بصدد نقدها أو تأييدها لأنها تعود للقناعة الشخصية والتجارب الإنسانية التي خاضها الشاعر. عاش النواب حياةً مليئة بمواقفَ نبيلةٍ وواضحة ودون مساومة مَبدئية أو أخلاقية, حيث بقيَ محافظًا على عدائه وتمرده ضد الأنظمة القمعية والشمولية وكما هو الحال في مواقفه المعارضة لحكومات ما بعد ٢٠٠٣ وهو ما قد يندر أن نراه ومع ذلك تظل نقطةً بيضاء كبيرة تحوم حول نعش الشاعر الراحل مظفر النواب.