هي جدة الآن.. تحدثني عن جدتها، فهي جميلة جدا، تكاد عينيّ لا ترمش، لارى جمالها واقول اه لو كنت اعرفها منذ زمن بعيد، انها شقراء، وكل ما تقوله جميل لأنها جميلة لا توصف.. فبدأت تتحدث قائلةً.. لا اتذكر كثيرا حكايات جدتي (رحمها الله) لكنني لغاية الان اشعر بصوتها، بدفء ذاك الصوت كنا نجتمع حوله، كان لها اسلوبها الخاص في طريقة القص.. كان يا ما كان في قديم الزمان، ونتحلق حولها بشغف، والله يسلمّ فمك ياجدتي.. وكانت لاتعطي كل ما لديها دفع واحدة، كانت تملك حسن التشويق، تجعلنا نتلهف ونحترق بالانتظار قبل ان تبدأ حكاية الزير سالم، وليلى والذئب، والشاطر حسن، ويا ما كنت احلم بالشاطر حسن.. صورته لنا شابا ذكيا وسيما وكبرت وانا انتظر قدوم الشاطر حسن على حصانه الابيض ليختطفني انا الصبية الشقراء الجميلة، انا التي كنت اميرة جدتي ومحط اهتمامها الاوحد، لعلها ميزتني عن شقيقاتي واشقائي، كونها اكتشفت لدّي حب الاطلاع المبكر، لم اكن اكتفي بالسماع، كنت اسألها عن التفاصيل، احيانا اتخيل النهايات فأسبقها بالبوح بها وسط دهشة اخواتي، حتى انهن ظنن ولغاية اليوم، ان الحاجة خديجة جدتنا، كانت تحكي لي كل شيء اولا ثم تقدمه للآخرين.

فيما بعد، وبعد رحيلها بوقت طويل وبعد ان دخلنا الحياة من باب همومها العريض، اكتشفنا ان جدتي كانت تحتال علينا، كانت تخدعنا بكل الحكايات التي اسمعتنا اياها، فالشاطر حسن لم يأت ابدا، وانا لم اكن اميرة في اي يوم من حياتي، وليلى التي غلبت الذئب وتفوقت عليه في حكايات جدتي، اكلها الذئب في الواقع مع جدتها، والزير سالم لم يرث طباعه ونخوته احد، ولم يحقق احلامه على الاطلاق.

في كل حكاياتها انتصر الخير على الشر، وفي الحياة التي عشناها دائما كان الخير هو المغلوب والشر منتصرا ولا يوقفه احد.. لعلني لهذا السبب لم أرث مقدرتها على القص، لم احب يوما اجلاس بناتي ولا حفيداتي من بعدهن، ومحاولة سرد الحكايا لهن، خفت ان اظلل عقولهن الطفلة، ان اصور لهن الحياة عسلا فيكتشفن بعدئذ انها العلقم الاكيد، قلت لتتعلم كل واحدة منهن على طريقتها حكاية الواقع الذي تعيشه، قلت التجربة الميدانية اهم من الوهم الذي تزرعه الجدات حول مواقد الاصغاء التام.. لكنني اكتشفت اليوم انني كنت على خطأ، فظل جدتي علينا، انها جعلتنا نحلم، جعلتنا نمارس فن الخيال، ما فعلته أنا، انني تركت بناتي غير قادرات على الحلم وحفيداتي اليوم ملتصقات بجدة من نوع اخر، انها الشاشة التي تنوب عن الجدة، وحكاياتها لا تؤسس الحلم والذاكرة، بقدر ما تخرب الذاكرة والمخيلة.

وتحولت حفيداتي الى ببغاوات يكررن ما تقول الشاشة تيتا، ميكي ماوس وبندق وبطوط والبوكيمان، وسواها من شخصيات، تؤثر سلبا على حفيداتي وسواهن من اطفالنا الصغار.. قبل ايام زار حفدتي حفيد جارتي شبه الامية، حدثهما عن علاء الدين والفانوس السحري.. ذكر لهما على بابا، اليس، ليلى، الشاطر حسن، وهما وقفتا باستغراب، هما لا تعرفان سوى الحيوانات والاشكال المشوهة، والاصوات المشوهة التي تقدمها الشاشة تيتا، هو يعرف اكثر.

اكتشفت ان جارتي شبه الأمية، ورثت حكايا جدتي، وبدأت تعش وحفيدها اجمل الاقاصيص، وانا المتعلمة المثقفة الكاتبة، قاطعت جدتي الحاجة خديجة، لأن الشاطر حسن لم يأت، وليلى المعاصرة اكلها الذئب، ليلتها جلست مع حفيدتي، تذكرت جدتي.. تذكرت طفولتي كلها، عادت اليّ كل الحكايا التي كنت نسيتها، شعرت بحفيدتي شغوفتهن، بما سأقول، عدلت من جلستي، حدقت في اللامكان وكأنني فجأة صرتها، صرت الحاجة خديجة، وكم شعرت بمتعة كبيرة، حين همست فجأة: كان يا ما كان في قديم الزمان، وصوت حفيدتي في وقت واحد، يقول الله يسلمّ فمك ياجدتي.. الان صرت جدّة.. بعينيّ لازلت بنت العشرين من عمرك الله ما أجملك سبحان الخالق.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *