أوقف شعر رأسي وصفه ، وملأني بالإحباط وضعه ، الذي جعل ذاكرتي تراوغ أزقتها المكتظة بالصور ، يحيط به من جهة اليمين كدس من النفايات برائحة كريهة ، وعن يساره كوم من الرمل والحصى ، وآخر من الأجهزة المستهلكة وقطع حديدية متصدئة (والذي منو ) على حد تعبير اخواننا المصريين ، وقبالته ( كشك ) بائس لبيع المرطبات ، وفي هذا المربع بالأوصاف التي ذكرت ، يتصل بصاحبه عبر الهاتف ليصف جلسته بأنها ( گعدة من العمر ) ، وبحاجة لمن يصوره ، لأن كاميرة هاتفه عاطلة ، حزنت كثيرا لهذا الشاب الذي بدا له المكان الذي يتناول فيه الأيس كريم أعلى معايير الجمال ، فتخيلوا كيف هي ذائقته ؟ .

يذكرني هذا المشهد بسفرة عمل الى اسطنبول ، وليس منها في بالي سوى جسر البسفور الذي يتحدث الناس عن طوله وربطه بين قارتي اوربا وآسيا ، وجمال الأماكن التي تقع على جانبي خليجه ، ومن نافذة الطائرة التي كانت تحلق فوق المدينة أبصرت الجسر واضحا ، فالمنظر لا تشوبه أتربة تشوش الرؤية ، او يلوثه ( سكراب )على سطوح المنازل ، فالسماء صافية كمرآة عروس ، والألوان على حقيقتها ، الأزرق أزرق والأخضر أخضر ، لقد أطرت النافذة المنظر ببناياته الملونة وأشجاره الكثيفة وأمواجه المتلاطمة ، حتى تظنه لوحة جميلة أبدعتها أنامل فنان ماهر . جمال المنظر أجبرني ألا يستغرق بقائي في الفندق سوى استبدال ملابسي وغسل وجهي والانطلاق نحو المدينة ، فاذا بها كما في اللوحة التي أمتعت ركاب الطائرة التي تباطأ قائدها في الهبوط بحسب توجيهات ادارة المطار ، ويبدو ذلك لكثرة الطائرات الهابطة والمحملة بآلاف السياح ، ينقل لي هواة السفر والعهدة عليهم ان كل ثلاث دقائق تحط طائرة في اسطنبول ، وخمس دقائق في مطار دبي ، وعشر دقائق في مطار بيروت قبل الأزمة ، بالتأكيد يتبادر الى الذهن سؤال : كم طائرة تحط في مطارنا يوميا ؟ .

يُشيع جمال البحر والجسر والخضرة في نفسك البهجة ، فتحتار أين تلتقط صورة ؟، كل الأماكن تستحق التصوير ، فالصورة ليست لك او للمكان كلا على انفراد ، بل للأثنين معا ، أهم ما في صور السفر الخلفيات ، الصورة تعني انك كنت هنا ، تنتاب البعض رغبة عارمة بالتصوير ، فالتحسب حاضر في البال ، قد لا يُكتب لك زيارة هذه الأمكنة ثانية ، لكن كثرة الصور التي أتاحتها هواتفنا الذكية قد تحرمك متعة التأمل فيما ترى ، او اشباع حاجتك للجمال ، وهناك من الناس سرعان ما يملون التصوير لكثرته أثناء السفر ، لكنهم ندموا لاحقا ، كصاحبي الذي سنحت له فرصة زيارة باريس الموصوفة بمدينة النور والعطور ، ومازالت حلاوتها على طرف لسانه ، البهجة واضحة على صاحبي بالصورة التي التقطها قرب برج ايفل ، لكنه تكاسل عن صعوده والتقاط صورة للمدينة من الأعلى ، ومازال لليوم يعض أصابع الندم .

تجولت مع العائلة خلال العيد في العاصمة بغداد ، لكني لم أجد ما يدفعني لالتقاط صورة تذكارية ، ولم أسمع من أفراد عائلتي رغبة بذلك ، الأماكن لا تغري اطلاقا ، لكن في النفس حاجة للصورة ، لا يقاف الزمن ، لتوثيق أنفسنا في المكان .

لم نتمكن من تجميل مدننا ، وغير قادرين على ادامة الجمال الطبيعي ، بينما يمكن تحقيق ذلك بأشياء بسيطة ومتاحة ، فالجمال يكمن في البساطة ، لا نطمح للمدهش من المدن التي يبث صورها التلفزيون ، لكن عمليات تجميل بسيطة تقوم بها ملاكات ذواقة من الفنانين والمهندسين كفيلة بخلق أجواء لمتعة حُرمنا منها ، في كل العالم هيئات لتجميل المدن ، الا في بلادنا ، فالتجميل ليس من اهتماماتنا ، وان حصل يجري بطريقة عشوائية وبأيد غير خبيرة، او من يقوم به من بيئة قبيحة متكيف معها ، فلا يبصر القبح ، بل ويظنه جمالا ، ولذا قد يكون اليوم الذي نتطلع فيه الى تصوير أنفسنا في ( گعدة من العمر ) بعيدا .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *