حين قرر المقرّرون حلّ اعقد ازمات العالم متمثلة بنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا ، بدأت نواقيس الكنائس تقرع مع صوت الاغلال التي تتكسر وابواب السجون التي تفتح ، وانطلاق مباحثات اتفاقية ارساء الديمقراطية في جنوب افريقيا 1991-1992 ،
أُخرج سجين العصر واشهر مكافح لنظام الفصل العنصري نيلسون مانديلا من سجنه عام 1990 بعد ان مكث فيه 27 عاماً ليقود المباحثات مع اعتى نظام عنصري حكم جنوب افريقيا في ظل حرب طاحنة ورفضٍ لبنود الاتفاق من كلا الطرفين ،البيض الخائفين من فناء وجودي ، والسود الذين يشكّون بان بلادهم يمكن ان تستعاد عن طريق المفاوضات ،وبانهم سيكونون ضحية خديعة من العيار الثقيل :
ان يوقّع السود بانفسهم على شرعية حكم البيض لهم وانهاء ثورتهم الاسطورية . القصة معقدة لكن اداء مانديلا حوّلَهُ الى إمام للاحرار من كونه صانع حدث داخلي في منطقة محددة ،
فحين شهد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس يناير 1992 المصافحة الشهيرة بين دي كليرك اخر الرؤساء البيض لجنوب افريقيا ومانديلا وثارت ثورة المعترضين الغاضبين من الجانبين قال كلمته الخالدة ..(السلام يعني ان يكون عدوُك صديقَك)،
ورغم المصاعب والمباحثات التي كانت تجري في برك من الدماء جراء المذابح بين الجانبين ، اصر مانديلا على السلام .وتم الاتفاق خلال المفاوضات على إجراء انتخابات عامة متعددة الأعراق، وحكومة ائتلافية ودستورانتقالي وضمان الفصل بين السلطات وإنشاء محكمة دستورية،بما في ذلك مشروع قانون للحقوق على طرازالولايات المتحدة.
اشهر المواجهات التي حدثت لافشال المباحثات كانت في اعقاب اغتيال زعيم المؤتمرالوطني الأفريقي المناضل الشيوعي البارز كريس هاني، رفيق دربه وصديقه الشخصي ؛ الحدث الجلل الذي خلّف حرباً انتقامية شرسة بين تحالف أحزاب أفريقية يمينية متطرفة وجماعات عرقية انفصالية وميلشيات من البيض والسود انشئت في بيئة تلك المواجهات استعدادا لحرب اهلية مفتوحة محتملة .
مانديلا ألآن في أحرج مواقفه عليه ان يُطمْئِن البيض ويهديء السود، فكيف ياترى يخرج من هذا المازق الدموي الذي قد يؤدي الى انتكاسة تامة في متوصلات السلام القلق ودخول البلاد في حرب اهلية طويلة الامد،خرج مانديلا بحكمة وشجاعة القائد التاريخي لمواجهة حشود السود الغاضبين على مقتل الزعيم الوطني والصديق الشخصي الاقرب لمانديلا ورفيق نضاله .
والعالم كلُه كلُه يحبس انفاسه ويصغي بفضول شديد للكلمة الفصل التي ستحدد مصير المفاوضات بل ان مصير البلاد برمتها كما أشارت وسائل الاعلام صار في فم مانديلا وعلى لسانه في هذا الموقف المتوتر المهيب في ظل توقعات بان خطابه للامة سيتضمن انسحابه او تأجيل الاتفاق على الاقل لحين التحقيق في مقتل هاني..
فنطق الذي معه الحق قائلا :
(أَمامَنا طَريقانْ ، السَّلامُ أو الحَرْبْ. الحربُ أسهلُ الطريقين بكثير ،ادواتها متاحة وأسبابُها جاهزة ، ويكفي أن تُعلنَها لوحدِك . أما السّلام فلايمكنُ لطرفٍ وَحدَهُ أن يُحققه، معنى السّلام أنْ يَعملَ معكَ شخصٌ تكرهه ، وان يكونَ عدوُك صديقَك …أنا سأختارُ
السّلامْ) .
ثم توجه في خطابه الى البيض العامة اللذين ارعبتهم ثورة الزنج انتقاما لمقتل قائدهم قائلا (اطمئنّوا ، شرفُهم سيَحميكُم من غضبِهم) ،أكرَمَ فيها السود وطمأن البيض ،تغير مزاج الجماهير بعد ذلك واتجه المجتمع لمراجعة الذات، والحوار مع الاخر ، وساد في سماء جنوب افريقيا هدوء ،هدوء، توقعه البعض عابرا، لكنه استمر طويلا.