كُدس هائل من الحوارات التي جرت على مدى عقدين بين القوى المهيمنة على واقعنا السياسي ، ولكنها جميعا انتهت الى تقاسم المغانم والنفوذ والسلطة ، ولم تفض أي منها الى وضع العملية السياسية على السكة الصحيحة ، واصلاح الخراب الذي يلف البلاد من شرقها الى غربها ، فحواراتها تفاهمات على ترتيب الأمور بما يخدم مصالحها ، أما سيادة الوطن المفقودة ، والحياة الرغيدة ، وحق المواطنة ، والقضاء على الفقر والامية ، والارتقاء بالخدمات ، واصلاح عوج العملية السياسية فلا وجود لها في أجندتها ، نسمع شعارات اصلاحية وتسميات لأحزاب من دون أن نجد لها تجسيدا في الواقع ، وهذا ديدن الجميع ولا أستثني .
لا أحد يجهل مواطن الخلل في العملية السياسية ، او لا يعرف آليات الاصلاح ، الكل يدركها ، ولكن ما نفتقده هو ارادة الاصلاح النابعة من روح وطنية ، ولذلك لم تنطلق الدعوة الى الاصلاح من الطبقة السياسية طوال المدة الماضية ، بل صدحت بها حناجر الناس مبكرا ، الا ان الطمع بالسلطة ، دفع الممسكين بالحكم الى قمع الداعين الى الاصلاح بالتواطؤ مع آخرين ، واحتجاجات تشرين مثالها الأوضح التي اتهم شبابها ( بالجوكرية ) وأبناء السفارات وأنصار النظام السابق . وجرى اسكاتها بالاغتيالات والخطف والتهديد وغيرها من التي لا تنم عن ضمير وطني ، وكأن هؤلاء الشباب خرجوا بطرا ، بينما صار حج المطعم التركي فريضة الوطنية العراقية .
ولم يكن أمام الطبقة السياسية ازاء فضائح الفشل المريع وافراط بعضها في استخدام العنف سوى الاذعان لمطالب المحتجين بتشكيل حكومة انتقالية واجراء انتخابات مبكرة ، الا ان الوجوه المألوفة نفسها عادت ، وان الشخصيات الجديدة لم يكن بمقدورها تحقيق الاصلاح بالرغم من حماسها وصدق رغبتها ، فوجودها وسط أطراف متصارعة تملك من القوة ما يوازي قوة الدولة ونفوذ يفوق نفوذها ، جعلها في حيرة من أمرها ، ما أجبرها على موقف الحياد ، فانتفضت الجماهير مجددا مستثمرة الغطاء الصدري .
لا يحتاج الاصلاح الى حوارات ، فموضوعاته واضحة وآلياته معروفة ، ما نحتاجه اعلان الأحزاب والتيارات صراحة عن هذه الموضوعات والآليات وتبنيها رسميا ، لكي نتحاسب عليها لاحقا ، اما اجراء انتخابات مبكرة من دون ذلك فلا جدوى منها اطلاقا ، اذ ستنتهي كما انتهت التي قبلها ، وستتجدد المشاكل نفسها ، لماذا ؟ لأن البيئة بمختلف وجوهها غير مستقرة ، والقوى المتنفذة والثرية قادرة على اجبار واغراء الناس على اعادة انتخابها ، وهذا ما حدث في تجارب سابقة ، والا كيف يحتج الناس على شخصيات فاسدة ومنها من أهدر دمها ، ثم تتصدر المشهد السياسي ثانية ؟ .
بالفعل انها فرصة أخيرة لإنقاذ البلاد ، واذا مرت دون نتيجة ، فان بحرا من الدم سيُغرق العراق ، لذا فان الحكمة تكمن في العودة الى المربع الأول ، نعدّل الدستور وقانون الانتخابات وتشكيل المفوضية ، ولنرمي الكرة هذه المرة في ملعب القضاء والخبراء الاكاديميين وابعاد السياسيين ، ففي تدخلهم تغليب لمصالحهم على مصالح الوطن .
ان اجراء انتخابات بلا تعديلات خطأ جسيم ، لكونها فرصة تاريخية للخاسرين في الانتخابات الماضية ، لعلهم بالجديدة يحققون تقدما ، وعند ذاك ، لن يكون لها قيمة ، ولا نجني منها سوى خسائر مالية باهظة يدفعها الناس من قوتهم ، ثم لماذا يتحمل الناس هذه المبالغ المليارية لقوى متصارعة على السلطة ومختلفة على الغنيمة ؟، أظن لو استُثمرت بالخدمات او تمويل المشاريع الصغيرة ، لأسهمت بحل مشكلات كثيرة يعانيها الشباب ، وتتصدر حاليا لافتاتهم الاحتجاجية . اعادة الانتخابات هدر للمال العام وترحيل للأزمات . ولو سلمنا بإجراء الانتخابات ، من الذي سيهيىء لها ، هل حكومة الكاظمي التي اتفق الاطار التنسيقي مؤخرا على عدم التجديد لها ، بادعاء موالاة الكاظمي للتيار الصدري من وجهة نظرهم ، وهل ستوافق قيادة التيار على حكومة انتقالية يقترحها الاطار التنسيقي ؟ أظن ان هذه مشكلة جديدة ستطفو على سطح المشهد خلال القادم من الأيام