في ذروة الازمة الشاملة التي يمر بها ويعاني منها العراق، هل يبدو الحديث عن “الحضاري” ترفا فكريا؟ وبالاحرى هل نحن بحاجة الى الحضاري للخروج من هذه الازمة؟
والجواب العاجل: نعم. والسؤال التالي هو: لماذا؟ والجواب العاجل ايضا هو: لان للعراق يمر بمنخفض حضاري كبير.
وليست هذه الحالة جديدة. ويتوقف حساب تاريخها على الوقت الذي نبدأ منه بحساب تاريخ المجتمع العراقي. وان شئت ان تبدأ منذ قيام الدولة العباسية في عام ١٣٢ هجرية/ ٧٥٠ ميلادية فان بامكانك ان تضع خطين تحت اسم الخليفة العباسي العاشر الملقب بالمتوكل على الله الذي حكم العراق في الفترة من سنة ٢٤٢ الى سنة ٢٤٧ هجرية. وهو الخليفة الذي اظهر تعصبا طائفيا لم يكن معروفا من الخلفاء العباسيين الذين سبقوه، حيث امر بهدم قبر الامام الحسين في عام ٢٣٦ وهدم ما حوله من الدور، وان يعمل مزارع ومنع الناس من زيارته وخُرّب وبقي صحراء “فتألم المسلمون من ذلك، وكتب اهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء”، كما يقول جلال الدين السيوطي (ت٩١١ هجرية)، في كتابه “تاريخ الخلفاء”. ويمكننا تتبع التدهور الحضاري في المجتمع العراقي بعد ذلك التاريخ، وصولا الى سقوط بغداد تحت الاحتلال المغولي سنة ١٢٥٨ م، ثم الاحتلال الفارسي، فالاحتلال العثماني، فالانكليزي ليصل ذروة المنخفض الحضاري في العهد البعثي الصدامي (١٩٦٨-٢٠٠٣)، ليحصد العراقيون النتائج الكارثية لهذا المنخفض الحضاري بعد ذلك.
“الحضاري” وصف يطلق على الشيء (المجتمع، الدولة، الفكرة، التصرف الخ) الذي يعكس ويجسد منظومة القيم التي تحكم علاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالطبيعة، بشكل يحقق النمو المستدام والتكامل التراكمي والحياة السعيدة الطيبة، ووفرة الانتاج، وعدالة التوزيع. فاذا ما اختلت منظومة القيم هذه واختلت معها او بسببها العلاقة بين الانسان والانسان والعلاقة بين الانسان والطبيعة، حصل المنخفض الحضاري، او الانسداد الحضاري، او التخلف الحضاري، وهو عبارة عن خلل حاد في المركب الحضاري.
وحين يحصل هذا فان المجتمع سوف يشهد العديد من الظواهر السلبية منها التدهور الاقتصادي في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات والادارة. ويصبح المجتمع استهلاكيا اكثر من كونه منتجا، وتتراجع قدرته على انتاج غذائه. ويميل الى الانخراط في الوظائف الحكومية المكتبية التي توفر له مرتبا شهريا ثابتا بدل الذهاب الى الارض والسعي في مناكبها طلبا للرزق.
وسوف يتقبل المجتمع الاستبداد السياسي وتسلط اشخاص لا يجسدون ارادته على الدولة والحكم والثروات ويجيز الفقهاء امامة المتغلب الذي يفرض سلطته بالقوة العسكرية.
كما سوف يتقبل الناس الزعامات الوراثية سواء في المجال الديني او العشائري او السياسي، ويصفقون لعبادة الشخصية.
وسوف يصاب المجتمع بالعبودية الطوعية التي يخضع المجتمع بموجبها وبسببها لسلطة المستبد فيما يبدو وكأنه عن رضا وقبول وتموت في المجتمع روحية الرفض والمقاومة والنضال من اجل الحرية.
وسوف يجد المجتمع من الصعوبة عليه ان يتقبل فكرة الاستخلاف الالهي للانسان، او الديمقراطية، بل سوف ينظّر بالضد منها كما كان يفعل فقهاء قدماء، او اسلاميون محدثون يتحدثون عن عدم قبول الاسلام للديمقراطية.
بل ان بعض الناس سوف يعلنون قبولهم بفكرة “المستبد العادل” وهي عبارة عن توهم امكانية تحقيق العدالة على يد حاكم مستبد جبّار.
وسوف يكون من الاسهل على هذا المجتمع الانخراط في اعمال العنف، كالحروب الاهلية، من الذهاب للحوار والسلم المجتمعي.
هذه وغيرها كلها صفات يتصف بها المجتمع العراقي بهذه الدرجة او تلك. ولا يمكن التخلص منها ما دام المجتمع يمر بحالة المنخفض الحضاري، اي حالة التخلف، ولابد من الخروج من هذه الحالة لكي يكون بالامكان معالجة المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق. لهذا كله يحتاج المجتمع العراقية الى الرؤية الحضارية لماضيه وحاضره ومستقبله.