ليس من طبعي ان اكتب عن الاشخاص، سلبا او ايجابا، انما اكتب عن المواقف، تحليلا واعتبارا. لكني سوف اكسر هذه القاعدة قليلا، لأشيد بالسيد مقتدى الصدر، وخطابه المقتضب (حوالي ٧ دقائق)، الذي انهى حالة من التداعي والتدهور كانت مرشحة ان تتطور الى نتائج يصعب توقعها لو تحملها.
كانت الدقائق السبع ومضة عقلٍ وسط الجنون، واعتدالٍ وسط التطرف، وسلمٍ وسط الحرب. تضمنت اصعب ما يقوم به الانسان وهو الاعتذار، واقسى قرار يتخذه وهو الاعتزال، وهما امران اطفئا الشرارة التي كانت ان تحرق الاخضر واليابس.
سيحتاج الناس الى وقت اطول لمعرفة ما جرى في اللحظات التي سبقت اعتزال السيد كاظم الحائري، الى اللحظة التي اعلن فيها السيد مقتدى الصدر اعتزاله، والى ان يتم ذلك، يكفي ان يعرف الناس ان في هذا البلد كوابح قادرة على ايقاف التدهور ونزع فتيل النار.
كما ان سخونة الاحداث التي شهدتها الايام الماضية، من شأنها ان تجعل الفاعلين السياسيين يدركون ان اللعب بالنار قد يحرق الجميع، طبقا لقوله تعالى:”وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.”. وهذا يستلزم العودة الى الرشد، وتحكيم العقل، والالتزام بالقواعد والضوابط، وعدم السماح لكرة النار بالتدحرج الى ما لا نهاية.
لقد اكدت الاحداث ان النظام السياسي الحالي وشبكة العلاقات بين الفرقاء المختلفين يعاني من اختلالات عميقة الجذور تعود لا الى العشرين سنة الماضية فحسب، وانما الى المئة سنة الاخيرة، التي شهدت بدايتها بناء الدولة العراقية الراهنة بكل عيوبها وثغراتها. كما اكدت ان محاولات التصحيح واعادة البناء التي شهدها القرن الاخيرة كانت كلها دون مستوى متطلبات الاصلاح واعادة تأهيل الفرد والمجتمع والدولة.
نحن الان امام فرصة ذهبية لالتقاط الانفاس واعادة التفكير بقواعد العمل في الحياة السياسية، وصياغة فلسفة جديدة للدولة العراقية تتقدم على حالتها الراهنة بخطوات كبيرة نحو المستقبل لكي تتمكن من انتاج حراك ايجابي يبني ولا يخرب، يحقق الانتظام ولا يغرق في الفوضى.
هذه فرصة تاريخية لبناء “اجماعات وطنية” جديدة في المجتمع العراقي في مقدمتها الاجماع على ضرورة الاصلاح الشامل لكي مرافق الحياة في العراق.
والاجماع على ان السلام هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار امتثالا لقوله تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”، فيشرعوا ببناء حياتهم على اساس السلام، والتعايش على اساس المشتركات و”الكلمة السواء”.
والاجماع على ان الاصلاح لا يتحقق بالفرض والاكراه والقوة، وانما بالحوار والتفاهم والتراضي والاتفاق. في الحياة السياسية البرلمانية نتقبل الاختلاف والتعدد، لكن يمكن ادارة هذا الاختلاف بالحوار والاصوات، وليس بالمهل التهديدية، ولغة العنف، والاقصاء. وان الدنيا يومان، يوم لك، ويوم عليك. وهذا التداول يتم عبر الانتخابات والمنافسة السياسية، وليس عبر الاكراه والصراعات والتصفيات المتبادلة والحرب.
ولابد للحياة السياسية من مصدر متفق عليه للشرعية. وحتى هذه اللحظة ليس لدى العراقيين غير الدستور، مع كل عيوبه وثغراته، ويتعين العمل بموجبه وتحت سقفه لتحقيق الاصلاح، واذا اقتضى الامر تعديله بموجب الالية المذكورة فيه. ان توفر الحد الادنى من الشرعية السياسية المتفق عليها يوفر الدرجة المطلوبة من الاستقرار والسلام وامكانية الاتفاق.
اخيرا هناك سؤال نتمنى من السيد مقتدى الصدر ان يجيب عليه وهو: ما هو مصير المؤسسات السياسية والعسكرية والخدمية التي انشأها بعد اعتزاله؟ ومن الذي سوف يقود هذه المؤسسات في حال بقائها بعد غيابه واعتزاله؟ لا اتوقع ان هذا السؤال غائب عن تفكير السيد مقتدى الصدر. حبذا لو اشرك الناس في هذا التفكير.