‏مثلما‭ ‬تتوارى‭ ‬نجمة‭ ‬خلف‭ ‬الليل‭. ‬أو‭ ‬تنام‭ ‬وردة‭ ‬مدفونة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭. ‬توارى‭ ‬جثمان‭ ‬صديقنا‭ ‬سلام‭ ‬الشماع‭ ‬في‭ ‬التراب‭. ‬كأن‭ ‬الغربة‭ ‬أرهقته‭ ‬طويلاً‭ ‬فتوقف‭ ‬ليستريح‭. ‬كما‭ ‬يستريح‭ ‬طائرٌ‭ ‬على‭ ‬حجر‭. ‬لينام‭ ‬كالراية‭ ‬المتعبة‭. ‬أصدقاؤنا‭ ‬يرحلون‭ ‬سريعاً‭ ‬كما‭ ‬الأيّام‭. ‬إذا‭ ‬مضى‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬لن‭ ‬يعود‭. ‬ونحن‭ ‬نحسب‭ ‬أيام‭ ‬العمر‭ ‬مثل‭ ‬حساب‭ ‬العصافير‭ ‬لحبّات‭ ‬البيدر‭.‬

‏كانت‭ ‬الابتسامة‭ ‬بطاقته‭ ‬أينما‭ ‬حلَّ‭ ‬وارتحل‭. ‬يشيع‭ ‬الظرف‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬أصدقائه‭ ‬ومحبِّيه‭. ‬ويضحك‭ ‬في‭ ‬أحلك‭ ‬الساعات‭ ‬كآبة‭. ‬فهو‭ ‬الأنيس‭ ‬المؤنس‭. ‬والحافظ‭ ‬لصداقاتهم‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬العمر‭. ‬والعمر‭ ‬غادر‭ ‬ٌ‭ ‬وغدَّار‭. ‬وكان‭ ‬يشتهي‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬عشَّ‭ ‬عصفور‭ ‬مع‭ ‬الفجر‭ ‬على‭ ‬شبّاكٍ‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬إذا‭ ‬عزّ‭ ‬مع‭ ‬الفجر‭ ‬لقاء‭.. ‬وعزّ‭ ‬مزار‭. ‬

‏أغالب‭ ‬مشاعري‭ ‬فأكتب‭ ‬رثاء‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬فكرت‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬رثائهم‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬يصيبك‭ ‬رحيلهم‭ ‬في‭ ‬الصميم‭ ‬فتشعر‭ ‬بوحشة‭ ‬في‭ ‬غيابهم‭. ‬وتحزن‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬قلبك‭. ‬فتسأل‭: ‬أهذا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبقى‭.. ‬صورٌ‭ ‬معلقة‭ ‬على‭ ‬الحيطان،‭ ‬وحفنة‭ ‬تراب؟‭!.‬

‏قتلتنا‭ ‬الفكرة‭ ‬يا‭ ‬سلام‭. ‬نحن‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬المنسيّين‭ ‬على‭ ‬حبل‭ ‬ممدود‭ ‬من‭ ‬المراثي‭. ‬تعبنا‭ ‬من‭ ‬صيف‭ ‬كئيب،‭ ‬وخريف‭ ‬غاضب،‭ ‬وربيع‭ ‬موحش،‭ ‬وشتاء‭ ‬حزين‭. ‬تعبنا‭ ‬من‭ ‬هجاء‭ ‬الزمان‭ ‬ومن‭ ‬لعنة‭ ‬المكان‭. ‬ضجرنا‭ ‬من‭ ‬واجهات‭ ‬المكتبات‭ ‬ومن‭ ‬حوانيت‭ ‬الورّاقين‭. ‬نمسك‭ ‬نجمة‭ ‬فتفلت‭ ‬ألف‭ ‬نجمة‭. ‬أحلامنا‭ ‬التي‭ ‬تمزقت‭ ‬كأوراق‭ ‬الجرائد‭. ‬

‏في‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينات‭ ‬عرفت‭ ‬الصديق‭ ‬سلام‭ ‬الشماع‭ ‬ذلك‭ ‬الألمعي‭ ‬المتوهج‭ ‬وقد‭ ‬تكسَّرت‭ ‬على‭ ‬صدره‭ “‬النصال‭ ‬على‭ ‬النصال‭”. ‬وكان‭ ‬محرراً‭ ‬لبريد‭ ‬المقاتلين‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬القادسية‭ ‬ينتظره‭ ‬القراء‭ ‬بلهفة‭ ‬كل‭ ‬اسبوع‭. ‬مؤنساً‭ ‬في‭ ‬بريَّة‭ ‬الروح‭. ‬صحافياً‭ ‬لامعاً،‭ ‬وقلماً‭ ‬مضيئاً،‭ ‬وكاتب‭ ‬تحقيقات‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الأول‭. ‬يصطاد‭ ‬الأخبار‭ ‬بمهارة‭ ‬صيَّادٍ‭ ‬ماهر‭. ‬مستقيماً‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الوريد‭ ‬إلى‭ ‬الوريد‭ ‬حتى‭ ‬وعاديات‭ ‬الزمان‭ ‬تحاول‭ ‬انحناءه‭. ‬

‏كانت‭ ‬أحلامه‭ ‬بمساحة‭ ‬وطن‭ ‬وآماله‭ ‬بحجم‭ ‬زلزال‭. ‬وكان‭ ‬سلام‭ ‬شديد‭ ‬الممانعة‭. ‬عصيَّ‭ ‬القلب‭. ‬كثير‭ ‬الأوجاع‭. ‬مهجوساً‭ ‬بالإبداع‭.. ‬حارساً‭ ‬أميناً‭ ‬للذكريات‭. ‬ولتراث‭ ‬الآباء‭ ‬والأجداد‭. ‬يعاند‭ ‬العاصفة‭. ‬ويصارع‭ ‬الأقدار‭. ‬كمصارع‭ ‬الفرسان‭ ‬والعشاق‭. ‬ويبحث‭ ‬عن‭ ‬شقائق‭ ‬النعمان،‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬جراحات‭ ‬الحبيب‭.‬

‏خلال‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬الممتدة‭ ‬من‭ ‬صداقتنا‭. ‬تغيَّر‭ ‬كثيرون‭. ‬تغيَّرت‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭. ‬قامت‭ ‬الدنيا‭ ‬ولم‭ ‬تقعد‭. ‬اندلعت‭ ‬حروب‭. ‬وافترقت‭ ‬دروب‭. ‬تفككت‭ ‬أوطان‭. ‬واهتزت‭ ‬مواقف‭. ‬وبقي‭ ‬سلام‭ ‬بنقائه‭ ‬الأول‭ ‬يسكن‭ ‬دواوين‭ ‬الشعر‭ ‬والأغاني‭. ‬مثل‭ ‬قارورة‭ ‬عطر‭ ‬في‭ ‬دكاكين‭ ‬العطور‭. ‬ينام‭ ‬في‭ ‬الكاظمية‭ ‬فيستنشق‭ ‬رائحة‭ ‬الأعظمية‭. ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬بعمَّان‭ ‬فيتلفت‭ ‬القلب‭ ‬إلى‭ ‬مقاهي‭ ‬الحيدر‭ ‬خانه‭ ‬في‭ ‬بغداد‭. ‬يمرُّ‭ ‬في‭ ‬غوطة‭ ‬الشام‭ ‬فيتذكر‭ ‬بساتين‭ ‬دجلة‭ ‬وعصافير‭ ‬الفرات‭. ‬لحضوره‭ ‬نكهة‭ ‬ورنين،‭ ‬ولغيابه‭ ‬وجع‭ ‬وحنين‭.‬

‏ولقد‭ ‬عشنا‭ ‬زمناً‭ ‬بالطول‭ ‬وبالعرض‭. ‬توقفنا‭ ‬مع‭ ‬الوردي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭. ‬وجلسنا‭ ‬مع‭ ‬الحنفي‭ ‬في‭ ‬منارة‭ ‬الخلفاء‭. ‬وتبادلنا‭ ‬الابتسامات‭ ‬والحكايات‭ ‬مع‭ ‬حسين‭ ‬علي‭ ‬محفوظ‭. ‬وسرنا‭ ‬معاً‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬إلى‭ ‬صحيفة‭. ‬ومن‭ ‬مجلس‭ ‬إلى‭ ‬مقهى‭. ‬ومن‭ ‬صالحية‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬صالحية‭ ‬دمشق‭. ‬ومرَّت‭ ‬علينا‭ ‬ليال‭ ‬كنّا‭ ‬نسهر‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ “‬لمبَّة‭” ‬ونحن‭ ‬نحرّر‭ ‬الأخبار،‭ ‬ونعيد‭ ‬صياغة‭ ‬التحقيقات،‭ ‬ونختار‭ ‬مانشيتات‭ ‬مشوّقة‭ ‬ومثيرة،‭ ‬وحيث‭ ‬الناس‭ ‬تختلف‭ ‬إلى‭ ‬بعضها،‭ ‬فلقد‭ ‬قابلنا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الصحافة‭ ‬أشخاصاً‭ ‬لم‭ ‬يلبثوا‭ ‬أن‭ ‬تدحرجوا‭ ‬حتى‭ ‬كنسهم‭ ‬النسيان،‭ ‬وبعضهم‭ ‬ترك‭ ‬المهنة،‭ ‬وضاع‭ ‬في‭ ‬الحياة‭!.‬

‏مبكراً‭ ‬جاء‭ ‬الرحيل‭ ‬يا‭ ‬سلام‭. ‬لتنام‭ ‬مطمئناً‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭. ‬للأعزاء‭ ‬مثلك‭ ‬طريقتهم‭ ‬العجيبة‭ ‬في‭ ‬المغادرة‭. ‬كم‭ ‬سيفتقدك‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والمحبون‭ ‬الطيّبون‭. ‬كأنك‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬وداع‭ ‬أخيرة‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬لهم‭ ‬قول‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬الريب‭:‬

‏يقولونَ‭ ‬لا‭ ‬تبعدْ‭ ‬وهم‭ ‬يدفنونني

‏وأيـنَ‭ ‬مكانُ‭ ‬البُـعد‭ ‬إلا‭ ‬مكانيـا؟‭.‬

‏سلاماً‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬سلام‭ ‬حتى‭ ‬الرمق‭ ‬الأخير‭.‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *